جرَّبت فرنسا العديد من الأساليب المثيرة للجدل بهدف منع انتشار التشدد الديني الإسلامي في البلاد، دون أي نجاح يُذكر.
لكن مسؤولاً سابقاً بالحكومة الفرنسية تقدَّم مؤخراً باقتراح جديد، يتمثل في بدء تعليم اللغة العربية بالمدارس العامة لمكافحة التطرف بين الشباب.
إذ تراجعت فصول تعليم اللغة العربية على مدار العقدين الماضيين في المدارس الحكومية الفرنسية، رغم زيادة تعداد السكان من العرب والمسلمين.
وفي تقرير صدر حديثاً، ذكر حكيم القروي، خبير الشؤون الإسلامية والعالِم العربي المعروف الذي عمل بحكومة الرئيس السابق جاك شيراك، أنه في حالة إخفاق المدارس العامة في توفير دروس اللغة العربية، سيسعى المسلمون من صغار السن إلى الالتحاق بفصول اللغة العربية التي تنظمها المساجد، حيث ترتبط اللغة بصفة حتمية بالدراسات الدينية.
وهنا، تصبح مخاطر التطرف أكثر حدَّة بالمساجد عنها في المدارس العامة، وفقاً لما ذكره التقرير الذي نشرته مؤسسة Montaigne البحثية الليبرالية الفرنسية.
ويبدو أن الحكومة توافق القروي الرأي؛ إذ قال وزير التعليم خلال حوار أجراه مؤخراً، إن اللغة العربية لغة "هامة للغاية"، ينبغي "تطويرها" ومنحها "مكانة" أكبر ضمن نظام التعليم الأساسي.
ومع ذلك، يذكر النقاد أن العلاقة المباشرة بين اللغة العربية والتصور المتشدد للإسلام خطيرة ومضللة، ولن تحول دون انتشار الفكر السلفي في فرنسا.
تراجُع تعليم اللغة العربية في فرنسا مقابل تقدُّم الإنكليزية
وفقاً لوزارة التعليم في فرنسا، يتعلم اللغةَ العربيةَ اليوم نحو 0.1% من أطفال المدارس الابتدائية أو 567 تلميذاً فقط. وفي المدارس الإعدادية والثانوية، يدرس 11200 طالب، أو 0.2% من الطلاب، اللغة العربية.
ويذكر القروي أن هناك العديد من العوامل التي تبرر ذلك التراجع، من بينها سياسة الحكومة الفرنسية المتمثلة في محاولة استيعاب المهاجرين العرب ضمن المجتمع الفرنسي، ومقاومة "الطائفية" أو لمّ شمل الأشخاص المشتركين في اللغة أو الثقافة أو الديانة نفسها.
وغالباً ما تُعتبر المدارس اللغة العربية أقل مكانة من اللغات الأخرى مثل الروسية أو الصينية. وقد أدت تخفيضات الإنفاق على التعليم العام إلى قيام العديد من المدارس بتقليص أو إلغاء برامج تعليم اللغة العربية لديها.
ورغم ذلك، فإن تعلُّم لغة ثانية أمر إلزامي في المدارس الابتدائية؛ ويتعلم أكثر من 90% من طلاب المدارس الإعدادية والثانوية اللغة الإنكليزية.
عدد السكان من أصول عربية يرتفع، ومعظمهم شبان!
ومع ذلك، فقد تزايد حجم الطلب على تعلُّم اللغة العربية. ففي منتصف العام 2016، بلغ عدد المسلمين في فرنسا 5.7 مليون نسمة، أي 8.8% من تعداد سكان الدولة، وأغلبيتهم من الشباب فيما بين 15 و25 عاماً، من المجموعة العمرية الأكثر تعرضاً لمخاطر التطرف، وفق ما أورده القروي.
وفي العام 2016، أوضح القروي وفريقه بمعهد Montaigne، من خلال إحدى كبرى الدراسات الاستقصائية بشأن المسلمين الفرنسيين، أن 67% من الآباء المسلمين أو العرب يرغبون في أن يتعلم أبناؤهم اللغة العربية الفصحى، في حين يودُّ 56% أن يتم تدريس اللغة العربية الفصحى بالمدارس العامة أو الرسمية.
يتعلم بعضهم اللغة خارج ساعات الدراسة
وفي الوقت الحالي، يدرس أغلبية الطلاب الذين يتعلمون اللغة العربية بالمدارس العامة تلك اللغة من خلال فصول ELCO، التي تم إنشاؤها في العام 1975 للسماح للأطفال الأجانب بتعلُّم لغة وطنهم الأم.
وقد اختارت البلدان التي فضَّلت المشاركة في البرنامج – الجزائر والمغرب وتونس وتركيا وكرواتيا وٍإسبانيا – المعلمين، وسددت رواتبهم؛ من أجل القدوم إلى فرنسا فترة 4 سنوات وتدريس لغتهم وثقافتهم للطلاب؛ علماً أن الطلاب يلتحقون طوعاً بهذه الفصول الدراسية خارج ساعات الدراسة الرسمية بالمدارس.
وتذكر وزارة التعليم أن أكثر من 58 ألف طفل يتعلمون اللغة العربية من خلال برامج ELCO اليوم.
رجال دين وخبراء يرفضون الربط بين اللغة والتشدد
تعرَّض مقترح القروي للكثير من الانتقادات من الجوانب كافة. وقال دليل بوباكير، شيخ المسجد الكبير في باريس "يؤسفني أن يخلط هذا التقرير الانتهازي والمنحاز بين الإسلام والتطرف، ويغفل عن عمدٍ، الجالية الإسلامية في فرنسا".
وأشارت رزيقة عدناني، الفيلسوفة والخبيرة بالشؤون الإسلامية، إلى أنه "لا يوجد سبب يجعلنا نصدق أن دروس اللغة العربية سوف تحدُّ من التطرف".
واليمين السياسي يرفض "تعريب فرنسا"
وتعرَّض التقرير أيضاً للانتقاد من قبِل نيكولاس دوبون إنيان، السياسي اليميني الذي يدعو إلى الانفصال عن الاتحاد الأوربي، والذي ذكر خلال حوار إذاعي، أنه كان "يعترض تماماً على تعريب فرنسا وأسلمة الدولة".
وقالت الزعيمة اليمينية مارين لوبان، "هناك بالطبع ثقافة عظيمة تُعرف باسم الثقافة العربية، ولكننا هنا في فرنسا، وما أريده هو أن نتعلم الثقافة الفرنسية".
القروي: علِّموهم اللغة خارج المساجد ودون إشراف رجال الدين
ومع ذلك، يصر القروي على أن ذلك هو الخيار الأمثل. ونقل موقع Quartz عنه قوله، "هناك حاجة ماسة إلى اللغة العربية في المجتمع الفرنسي، وهذه الحاجة لا يوفرها فعلياً سوى المساجد… وقد جعلتها المساجد أحد عناصر الجاذبية لديها. ومن ثم، فمن خلال عدم فتح فصول لتدريس اللغة العربية لطلاب المدارس الإعدادية والثانوية الراغبين في تعلُّم اللغة العربية، فإننا نرسلهم إلى المساجد".
ويردُّ القروي على هؤلاء الذين يقولون إن توصيته تُخاطر بالمساواة بين الثقافة الإسلامية والإسلاموية أو التطرف، قائلاً: "كتبنا 600 صفحة لتوضيح أن الإسلاموية ليست إسلاماً… ومن ثم، فليس هناك دمج، ولكن الأمر عكس ذلك تماماً".
ويردُّ على نقّاده مثل عدناني، الذي يقول إن تعليم اللغة العربية بالمدارس العامة لن يكفي لمنع تمدد الإسلاموية، قائلاً: "بالطبع لا يكفي".
امتلاك مفاتيح اللغة يعني المعرفة والاطلاع على شتى الآراء
ويعتقد القروي أن تعليم اللغة العربية هو مجرد أداة واحدة ضمن أدوات أخرى، في الوقت الذي لا يبدو فيه أن الحكومة الفرنسية لديها الكثير من الخيارات.
ويوضح قائلاً، "إنها إجازة مدرسية تسمح للمواطنين بتثقيف أنفسهم والتعلم، وانتقاد عدد معين من النصوص والعقائد وغير ذلك. ومن ثم، فإن هذا المقترح يرتبط بالوصول إلى المعرفة".
وتحظى فرنسا بعلاقات وطيدة وتاريخ مشترك مع العالم العربي. ويستفيد الطلاب غير المسلمين وغير العرب أيضاً من تعلُّم لغة وثقافة وتاريخ الحضارة العربية.
ويقول القروي، "لا أتحدث بالفعل عن تعليم اللغة العربية لأبناء وشباب المسلمين ذوي الأصول الشمال إفريقية فقط. فلا بد من أن تكون لغة للجميع، كما هو الحال مع اللغة الصينية أو الروسية اليوم".
وهذا ليس رأيه وحده؛ ففي العام 2014، كتب بيير لويز ريموند أستاذ الأدب بمدرسة Lycee du Parc في مدينة ليون، وجوزيف ريشي أستاذ اللغة العربية بجامعة Universite Lumiere Lyon 2، مقالاً افتتاحياً بصحيفة Le Monde الفرنسية اليومية، يدعوان فيه إلى زيادة أعداد معلمي اللغة العربية بالتعليم الابتدائي، وأشارا إلى أهمية اتفاقيات التعاون الثنائي مع بلدان شمال إفريقيا.
وكتب الأستاذان أن تلك الاتفاقيات مع منطقة المغرب العربي تسعى إلى تعزيز "الفرانكوفونية"، وأشارا إلى منظمة الدول التي تستخدم اللغة الفرنسية في معاملاتها اللغوية: "في ظل غياب سياسة التبادلية، فإن مستقبل تلك المعاملات الثقافية واللغوية سوف يكون عرضة للمخاطر آجلاً أو عاجلاً، ويصبح له تبعات اقتصادية هامة".
والهدف هو التوصل إلى "إسلام فرنسي" محصَّن ضد التطرف
ويأتي اقتراح القروي، بعد شهور من تصريحات الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بأنه يعتزم "وضع علامات على الطريقة الكاملة التي يتم بها تنظيم الإسلام في فرنسا". لم يدلِ ماكرون بتصريح غير مسبوق؛ بل كان يتعهد بالنجاح حيث فشل أسلافه.
إذ حاولت الحكومات المتعاقبة منذ ثمانينيات القرن الماضي، خلق علامة خاصة بالإسلام خاصة بفرنسا، بهدف مزدوج يتمثل في دمج الأقلية المسلمة بالبلاد ومحاربة التطرف الإسلامي.
كان الهدف هو خلق إسلام يتوافق مع القيم الوطنية، لا سيما العلمانية، يكون محصَّناً ضد التفسيرات الراديكالية.
ومن المفارقات، أن محاولات سابقة لتدوين نوع من الإسلام الفرنسي -تحويل الإسلام في فرنسا إلى إسلام من فرنسا- كانت متشابكة بشدة مع بلدان الفرنسيين مسلمي الأصل، وخاصة المغرب والجزائر وتركيا.
في عام 2015، على سبيل المثال، وقَّع الرئيس الفرنسي آنذاك، فرانسوا هولاند، اتفاقاً مع الملكية المغربية لإرسال أئمة فرنسيين إلى معهد تدريب بالرباط. وكانت النتيجة أزمة في التمثيل والشرعية. فحتى تمثل المنظمات القائمة، المدعومة من الدولة أو غيرها، لا تمثل المجتمعات الإسلامية المتنوعة في فرنسا.
ويعتبر محللون أن عدم اندماج المسلمين المهاجرين في المجتمع الفرنسي يفسح المجال لأيديولوجيات خطرة، وهو ما يحاول "القروي" تفاديه عبر توفير اللغة العربية في المنهاج الدراسي الحكومي، بحيث لا يبحث المسلمون والعرب عن اللغة خلف الأبواب المغلقة.