طالما دأب علماء التغذية على البحث عن النظام الغذائي المناسب من أجل صحة مثالية، لكن بعض الخبراء يرون الآن أن ضمان صحة جيدة لا يعتمد على طبيعة ما نأكله فقط، وإنما مرتبط بالوقت الذي نتناول فيه وجباتنا أيضاً.
تشير مجموعة متنوعة من الأبحاث إلى أن أجسادنا تعمل على النحو الأمثل عندما نقوم بمزامنة وقت تناولنا للطعام مع إيقاع ساعتنا البيولوجية، وهي الدورات التي تستمر على مدار 24 ساعة لإخبارنا بالأوقات المناسبة للاستيقاظ والنوم والأكل. وتفيد هذه الدراسات بأن تعطيل هذا الإيقاع بشكل صادم، من خلال تناول الطعام في وقت متأخر أو أخذ بضع قضمات من إحدى الوجبات الخفيفة بعد منتصف الليل، يمكن أن يتسبب في زيادة الوزن أو حدوث اضطرابات أيضية.
امتنع عن الوجبات البينية
مثلت هذه المعضلة موضوع كتاب جديد تحت عنوان "The Circadian Code" للدكتور المحاضر في معهد سولك للدراسات البيولوجية، والخبير في أبحاث الإيقاع الحيوي، ساتشين بندا. ويزعم الدكتور بندا أن الأشخاص يحسّنون من صحتهم الأيضية عندما يتناولون وجباتهم خلال مدة تتراوح بين 8 و10 ساعات كل يوم، حيث تمثل هذه الساعات الفاصل الزمني بين أول وجبة صباحية وبين آخر قضمة يتناولونها في وقت مبكر من المساء.
التزم بأوقات محددة عند تناول الطعام
ويستند هذا التوجه، الذي يعرف بالتغذية المقيدة بالتوقيت المبكر، على فكرة أن عملية التمثيل الغذائي البشري تتبع إيقاعاً يومياً يتزامن مع مستوى هرموناتنا وأنزيماتنا ونشاط جهازنا الهضمي، الذي يتم إعداده لتناول الطعام في الصباح وبعد الظهر. وعلى الرغم من هذا التوجه يجعل الكثير من الأشخاص يعتمدون على أكل الوجبات العادية والخفيفة في أي وقت من اليوم تقريباً، أي منذ استيقاظهم من النوم حتى اقتراب خلودهم إلى الفراش في الليل.
أفادت جذاذات أبحاث الدكتور بندا حسب ما جاء في صحيفة The New York Times الأميركية أن الشخص العادي يأكل لحوالي 15 ساعة في اليوم أو أكثر، وذلك بدءاً بالحليب والقهوة في وقت مبكر مروراً بالوجبات الرئيسية الأخرى والانتهاء بكأس النبيذ في المساء. كما يعمد بعض الأشخاص إلى تناول الوجبات الخفيفة قبل النوم بقليل، على غرار رقائق البطاطا والمكسرات. ويرى الأستاذ في معهد سولك للدراسات البيولوجية أن اتباع نظام غذائي مماثل يتعارض مع إيقاعنا البيولوجي.
عرف العلماء منذ وقت طويل أن جسم الإنسان يمتلك ساعة رئيسية يتحكم بها بواسطة الدماغ، وهي تقع في منطقة ما تحت المهاد، وتتحكم بدورات نوم واستيقاظ أجسادنا اعتماداً على استجابتها لدرجات سطوع الضوء. وقبل عقدين من الزمن، اكتشف الباحثون أن جسم الإنسان يمتلك أكثر من ساعة واحدة، بل يمتلك مجموعة كاملة منها، حيث يمتلك كل عضو ساعة بيولوجية خاصة به للتحكم في دورة نشاطه اليومية.
باعد الأوقات بين وجبات الطعام
خلال النهار، يرفع البنكرياس مستوى إنتاجه لهرمون الأنسولين الذي يتحكم في مستويات السكر في الدم، ثم يعمل على إبطاء عملية إفراز هذا الهرمون في الليل. وتحتوي الأمعاء على ساعة تساعدها على تنظيم عملية الانحسار والتدفق اليومي للإنزيمات، فضلاً عن امتصاص المواد الغذائية والتخلص من النفايات.
يعمل النبيت الجرثومي المعوي، حيث يقدر عدد البكتيريا بالتريليونات، داخل الأمعاء وفق إيقاع يومي. وتعد هذه الإيقاعات اليومية متأصلة ومتجذرة في أجسادنا لدرجة أنها مبرمجة في الحمض النووي البشري. وقد أظهرت الأبحاث أن آلاف الجينات يقع تشغيلها وإيقافها في الوقت ذاته تقريباً كل يوم، وذلك داخل كل عضو بشري.
يقول الدكتور بندا: "لقد سكنا في هذا الكوكب لآلاف السنين، وفى حين تغيرت الكثير من الأمور، ظل هناك شيء ثابت، وهو أن الشمس تشرق في الصباح وتغرب في الليل. لقد تم تصميم الجسم البشري ليكون لديه إيقاعات على مدار 24 ساعة من اليوم للتحكم بوظائف أعضائه أو بعملية التمثيل الغذائي. ولا يمكن نكران وجود هذه الإيقاعات، وكما تحتاج أدمغتنا إلى النوم كل ليلة للقيام بعمليات الإصلاح وإعادة التعيين وتجديد الخلايا التالفة، يحتاج كل عضو في جسم الإنسان إلى فترة راحة لإصلاحه وإعادة ضبطه".
تناول الطعام مبكراًَ يحافظ على صحتك
أفادت الأستاذة المساعدة في قسم علوم التغذية في جامعة ألاباما في برمنغهام، كورتني بيترسون، بأن معظم الأدلة تشير إلى أن استهلاك الجزء الأكبر من طعامك في وقت مبكر من اليوم له تأثير جيد على صحتك. وتظهر العديد من الدراسات أن التحكم في مستوى السكر في الدم يكون أفضل في الصباح، في حين يبلغ أسوأ مستوياته في المساء، فضلاً عن أن هضم الطعام وحرق السعرات الحرارية يكون بشكل أكثر كفاءة في الصباح.
أثناء الليل، يدفع نقص ضوء الشمس الدماغ إلى إفراز هرمون الميلاتونين، الذي يساعدنا على النوم. وحسب ما أوضحته بيترسون، إن تناول الطعام في وقت متأخر من المساء يرسل إشارة متضاربة إلى الساعات البيولوجية الموجودة في بقية أعضاء الجسم تفيد بأنه لا يزال في النهار. وأضافت بيترسون أنه "إذا كنت تأكل باستمرار في أوقات مختلفة من اليوم ولا تحصل على ضوء ساطع، فإن أنظمة الساعة المختلفة في الجسم تصبح غير متزامنة".
كما بينت بيترسون "سيكون ذلك كما لو أن ساعة واحدة تعمل بوقت اليابان بينما الأخرى بوقت الولايات المتحدة، ما يعطي إشارات أيض متضاربة حول ما إذا كان يجب أن تتسارع عملية التمثيل الغذائي أو تتراجع. يعرف معظم الناس ما يحدث عندما تتعطل الساعة المركزية في أدمغتنا بسبب الرحلات الجوية خلال فترات زمنية متعددة أو العمل لساعات متأخرة في الليل، الذي ينجر عنه شعور بالتعب، وإرهاق السفر، وتشوش الدماغ.
الأكل في ساعات متقاربة يوضع جسدك تحت تأثير الإرهاق
أوضح مدير مركز التمثيل الغذائي في جامعة كاليفورنيا وإيرفاين، باولو ساسوني كورسي، الذي نشر مؤخراً ورقة بحثية عن التفاعل بين التغذية والتمثيل الغذائي وإيقاع الساعة البيولوجية، أن "تناول الطعام في أوقات غير مناسبة من اليوم يضع ضغطاً مماثلاً على الأعضاء المعنية بالهضم، مما يجبرها على العمل في حين أنها مبرمجة لتكون في حالة خمول في الليل، ما قد يزيد من خطر الإصابة بالعديد من الأمراض".
حسب باولو ساسوني كورسي "من المعروف أنه من خلال تغيير أو تعطيل دوراتنا اليومية العادية، يزيد خطر الإصابة بالعديد من الأمراض". يمثل العمال الذين يعملون بنظام النوبات، حوالي 20 بالمائة من القوى العاملة في البلاد، وكثيراً ما يعمل العديد منهم في المناوبات الليلية، ما يجبرهم على تناول الطعام والنوم في أوقات غريبة من اليوم. وقد اكتشفت الدراسات أن العمل بنظام المناوبات الليلية يرتبط بالبدانة، والسكري، وبعض أنواع السرطان، وأمراض القلب.
تلعب العوامل الاجتماعية والاقتصادية دوراً كبيراً في تدهور صحتنا، حيث تشير الدراسات إلى أن اضطراب النظام اليومي يمكن أن يؤدي مباشرة إلى مزيد تدهورها. وفي إحدى التجارب، وجد العلماء أن البالغين الأصحاء الذين تم حثهم على تأخير فترات نومهم والاستيقاظ في وقت لاحق من المعتاد لمدة 10 أيام، والتخلي عن نظامهم اليومي فضلاً عن تغيير نظام الأكل الخاص بهم، ارتفع ضغط الدم لديهم واختل مفعول الأنسولين ومستوى السكر في الدم. كما توصلت دراسة أخرى إلى أن إجبار الأشخاص على البقاء إلى وقت متأخر بضع ليال على التوالي أدى إلى حدوث زيادة سريعة في وزنهم وخفض حساسية الأنسولين لديهم، وتغييرات مرتبطة بمرض السكري.
هيئ لجهازك الهضمي فرصة للراحة
خلال سنة 2012، أخذ الدكتور بندا وزملاؤه في معهد سولك للدراسات البيولوجية فئران متطابقة وراثياً وقاموا بتقسيمها إلى مجموعتين. تم منح المجموعة الأولى، فرصة تناول الأطعمة الغنية بالدهون التي تحتوي على كميات كبيرة من السكر على مدار اليوم، في حين تم تقديم الأطعمة نفسها للمجموعة الثانية وتقييدها بتناولها في الوقت العادي للأكل الذي لا يتجاوز ثماني ساعات.
على الرغم من أن كلتا المجموعتين تستهلكان نفس الكمية من السعرات الحرارية، إلا أن الفئران التي أكلت الطعام كلما أرادت ذلك ارتفعت نسبة الدهون في جسمها وأصيبت بالعديد من الأمراض. في المقابل، كانت الفئران التي تناولت الطعام في نظام وقت مقيّد محمية من السمنة، والكبد الدهني، والأمراض الأيضية.
استناداً على هذا البحث، أجرت الدكتورة بيترسون تجربة خاضعة لرقابة مشددة لمجموعة صغيرة من الرجال المرضى بالسكري. في مرحلة أولى من الدراسة، تناول هؤلاء وجباتهم في فترة تمتد على مدى 12 ساعة لمدة خمسة أسابيع. في مرحلة أخرى، تناولوا الوجبات نفسها في فترة تمتد ست ساعات كل صباح. وكان الباحثون يهدفون إلى إعطائهم المواد الغذائية الكافية ليحافظوا على وزنهم حتى يتمكنوا من تقييم ما إذا كان لدى نظام الوقت المقيّد أي فوائد صحية، غير المساهمة في تخفيض الوزن.
نتائج مثيرة وصادمة
كان لنظام الأكل المقيد فوائد عديدة، حيث كانت نسبة الأنسولين منخفضة عند الرجال في الفترة التي اتبعوا فيها هذا النظام، فضلاً عن انخفاض مستويات الإجهاد التأكسدي، وتراجع الشعور بالجوع ليلاً، ناهيك عن انخفاض ضغط دم. كما انخفض ضغطهم الانقباضي بنحو 11 نقطة، وضغطهم الانبساطي بحوالي 10 نقاط.
أوضحت الدكتورة بيترسون "لقد كان تأثير النظام المقيد زمنياً كبيراً جداً. كما كانت النتائج مثيرة ولكنها صادمة في الوقت ذاته". في حين أن الدراسات تشير إلى أن تناول الطعام في وقت مبكر من اليوم يعد الأمثل للصحة الأيضية، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أنه يجب تخطي وجبة العشاء؛ فمن المفيد جعل وجبات العشاء الخاصة بك خفيفة نسبياً.
وجدت مجموعة من الباحثين في إسرائيل بعد إجراء العديد من الدراسات أن البالغين ذوي الوزن الزائد قد خسروا وزناً أكثر، فضلاً عن تحسن نسبة السكر في الدم ومستوى الأنسولين لديهم بشكل كبير، ناهيك عن انخفاض عوامل الخطر القلبية الوعائية عند تناولهم وجبة فطور كبيرة، وغداء متواضعة، وعشاء خفيف وليس العكس؛ أي تناول وجبة فطور صغيرة وعشاء كبير. كما أكدت الدكتورة بيترسون على القول المأثور القديم: "تناول وجبة الإفطار مثل الملك، وتناول الغداء مثل الأمير، والعشاء مثل الفقير".
اقرأ أيضاً
إذا كنت تخطط للسياحة في مصر.. فلماذا ينبغي عليك تجاهل القاهرة والتوجُّه إلى الإسكندرية؟