كان يستيقظ كل صباح ليتأمل وجهها ذا الحروف الغجرية ويبتسم، فينظر إليها بحب وهي تتجهز أمام المرآة وتضع كحلها المزين، كان يتمعن في كل تفاصيلها ويداعب شعرها الأسود الطويل المتراقص على كتفيها، فيأخذ خصلة منه ويمررها على وجهه لتلتصق رائحته على حدود أنفه، كان يستيقظ كل صباح؛ ليستبصر جسمها المنقوش ويسبح في عطرها المنثور في الغرفة.
كانت له كتلك القهوة الصباحية التي يستحيل أن يستغني عنها، فهو آمن دوماً أن "القهوة لا تُشرب على عجل، القهوة أخت الوقت تُحْتَسى على مهل"، على فنجان القهوة الصباحي باتت ملامحها حاضرة، فهي مثلها قليل منها لا يروي العطش؛ بريق عيونها وابتسامتها الملائكية باتا ينعكسان على حافة ذلك الفنجان.
عهد كل يوم أن يكسر صمت البياض بأشعار ذات بحور عميقة فيعرب لها عما بداخله، ويكتب لتلك الغجرية ما يليق بها فيقرأ لها بعد ذلك قليلاً من كتابات نزار قباني ويغني لها أنشودة الصباح، كانت ترانيم الطفولة تعود إليه من جديد كلما حل بقربها، كلما حل بالقرب من الغجرية التي أحبها.
تلك الغجرية كانت تبتسم بحزن، تتكلم بصمت وتعشق ببرودة، جعل الزمن صيفها برداً وأشعة الشمس مطراً، جعل من شبابها شيخوخة ومستقبلها انعداماً، جعلها تفكر كما لو كانت في عمر الستين وتداوي الجراح وهي نفسها مجروحة، نطرت خلاصها كما نطرت فيروز حبيبها، كان كلما حل بالقرب منها تتذكر ماضيها المرير وكانت ذاكرتها تستحضر أحداث الماضي البعيد بتفاصيلها وجزئياتها في كل ليلة، لترسم من جديد لوحة مسار تركها لأرض الميلاد.
هاجرت أم هجرت؟ الأمر سيان، تأبطت الأمل وانساقت مع ريح الشمال ممتطية ألمها الدفين في حناياها وفي يومها المعيش، كيف لا وهي في عز غضبتها المترامية الأطراف كإخطبوط فقد وجهته ثم ارتمى على شاطئ ذي ضفاف صخرية؟! انسلت بهدوء من غمدها وحملت قرطاساً وقلماً وكتبت ما تيسر من عبارات الخروج وزركشتها بآهات لا تخلو من حنين لأرض الميلاد.
قالت في قرارة نفسها : "لابد أن أغير هذا المقام، فأرض الله لم تضق ببشر وما ضاع أمل وراءه ألم. ألم تعلمنا نواميس الكون أن الليل يتبعه النهار؟ وأنه لا يتأتى وجود لوميض إلا بعد عسر ومخاض؟… لا، سأحمل ربيع عمري على ما غمض من أيامي الآتية… سأثبّته قدر المستطاع على الكد، وحين أعود إلى أرض الميلاد، سأبسط أمام الملأ…"، قررت وقررت ثم استفزت قواها وحملت زادها من عذابات ضنك الحياة وعذوبة الطفولة، وتقوت برائحة الثرى اشتمتها للتو هنية من الزمن. تفرق ذهنها بين الشمال والجنوب، بعد حين من الدهر ستميط اللثام عن مسرحية أبطالها مغامرون يعيدون رسم الخريطة… عاشقون للأمل… ارتووا من الألم واتخذوه وقوداً لالتئام المسرحية.
لم تنَم من الليل إلا الجزء اليسير منه، قرأت فيه أسفاراً أغرقتها في التيه وشطرتها أشطراً خلت فيها نفسها مولوداً جديداً تحيطها هالة من الشهب. شربت في ليله من بئر عميقة لا مستقر لها ملؤها وديان وتفرعات وديان لا تنتهي في المسار. طوت خلال وقتها الأرض بالسماء… يا له من كتاب مخطوط بالأمل والألم، مسكوب فوقه عرق ذو طعم غجري وملوث بشرور كثيرة لا تعلم مصدرها إلا ما شاء الله لها أن تعلم، اختزلت عمرها في ذلك الجزء من الليل، وفي ذاك النزر اليسير من التفكير. يا لسخرية القدر!. وربما كان على صواب.
ربما كان على صواب.. وسافرت.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.