تقدّر حشرات النحل المجتهدة عالياً قيمة العسل، فهي ليست منتجة له وحسب، بل هي مستهلكة متمرسة وتعرف جلياً أي أنواع العسل يفيدها عند الحاجة.
أما الناس، الذين يشترون منتجات النحل، فلا يتعادلون مع النحل في تقدير ومعرفة الفروق الغذائية الدقيقة لأنواع العسل.
العسل يفيد النحل قبل البشر
تساعد المكونات الموجودة في العسل النحل على العيش فترة أطول، وتعزز تحمُّله للظروف القاسية مثل البرد الشديد، بل تزيد من قدرته على محاربة الالتهابات وتضميد الجروح.
وتشير نتائج الدراسات العديدة التي خُصصت لهذا الأمر، إلى طرق لمساعدة النحل، الذي تضرر بشدة في السنوات الأخيرة من الطفيليات والتعرض للمبيدات الحشرية وفقدان مواطنه الطبيعية.
تقول عالمة الحشرات ماي برنباوم، من جامعة إلينوي، لموقع معهد Smithsonian: "إنها مادة رائعة، وأعتقد أن الناس مازالوا لا يقدرونها تماماً".
والعسل أكثر وأهم بكثير، من مجرد مُحلٍّ لكوب الشاي، فالسائل اللزج يتكون في الغالب من السكر، ويستخدمه أعضاء خلية النحل التي لا تكل ولا تمل كغذاء.
ولكنه يحتوي أيضاً على الإنزيمات والفيتامينات والمعادن والجزيئات العضوية التي تمنح كل نوع من العسل تفرُده، وتمنح النحل نفسه فوائد صحية عديدة.
تستطيع مجموعة متنوعة من الحشرات أن تنتج العسل وليس فقط النحل الأصفر المخطط بالأسود؛ إذ تنتج حشرات النحل الطنان والنحل غير اللاسع وحتى دبابير العسل، لكن النحل العادي وحده يستطيع إنتاج كميات تكفي لتخزين أرفف متاجر البقالة وتزويد البشر ببعض مؤونتها.
تاريخ من التطور وتوارث المهام والمعلومات
هذه القدرة لم تحدث بين عشية وضحاها، وهي عملية استغرقت ملايين السنين من التطور والتكوين.
انشق النحل عن الدبابير قبل نحو 120 مليون سنة، خلال طفرة في تطور وانتشار النباتات المزهرة.
هذا التنوع الزهري- جنباً إلى جنب مع التحول بسلوك النحل في نقل اللقاح بدلاً من الحشرات إلى يرقات النحل- حفَّز تطوُّر ما يقرب من 20 ألف نوع نحل معروفٍ اليوم.
وبعدما أصبحت خبيرة في صناعة العسل، اعتمدت بعض الحيل السلوكية والكيميائية مثل إضافة قليل من الرحيق إلى حبوب اللقاح، مما جعلها أكثر قابلية للنقل.
كما طورت حشرات النحل غدد إفراز الشمع التي وفرت طريقة لتخزين الرحيق السائل وحبوب اللقاح الصلبة بشكل منفصل.
السر في تبخير المياه عبر الأشكال الهندسية
وأوضحت عالمة الحشرات في جامعة ولاية بنسلفانيا، كريستينا جروزينجر، التي تدرس الآليات الكامنة وراء السلوك الاجتماعي والصحة للنحل: "يؤمّن الشمع مواد بناء مرنة للغاية".
وعند تكوين قرص العسل، يشكّل النحل الشمع بأشكال سداسية، تبين أنها الشكل الأكثر فعالية لتخزين شيء ما، حيث يتم تجميع السداسيات معاً بإحكام في إنجاز هندسي نابغ.
وكلما اتسعت مساحة التخزين تبخرت المياه بشكل أسرع، وكلما قلت كمية المياه قلَّت فرص تكاثر البكتيريا.
وتبدأ عملية الإنتاج بمجرد أن تلتقط النحلة الرحيق، وبينما يبدو أنها تتناولها وتبتلعها، إلا أنها تخزنها في جسدها حيث تمتزج مع الإنزيمات المختلفة، حسب موقع Ontario Honey الكندي.
أحد الإنزيمات الأولى التي تتفعّل هي الإنفرتيز، والتي تقص جزيئات السكروز في الرحيق إلى النصف، وتنتج السكريات البسيطة مثل الغلوكوز والفركتوز.
وعندما تعود النحلة إلى الخلية، تنقل الحمولة إلى أول نحلة تجدها في خط طويل من النحل.
انتقال العسل من الفم إلى الفم الذي يتبع إنزال الحمولة يقلل من محتوى الماء ويقدم مزيداً من الإنزيمات، وهي عمليات تستمر في تكسير الرحيق وتوقف نمو الميكروبات.
تودع النحلات بعد ذلك الخليط في خلية، ثم تساعد على تبخر مزيد من الماء عن طريق هز أجنحتها.
في هذه المرحلة يعمل إنزيم آخر- الغلوكوز أوكسيديز- الذي يحول بعض الغلوكوز إلى حمض الجلوكونيك الذي يساعد في الحفاظ على العسل.
يؤدي التفاعل الكيميائي أيضاً إلى خفض درجة الحموضة- مما يؤدي إلى زيادة الحموضة- وينتج بيروكسيد الهيدروجين، مما يمنع الميكروبات من النمو ولكن في المقابل، يمكن أن يصبح ساماً عند مستويات عالية.
وأخيراً، تصبح الخلية جاهزة للتغطية بالشمع.
الشفاء في البطون
تطعم ممرضة النحل أعضاء الخلية الآخرين بالعسل المعالج، على أن يتم تخزين الباقي للأيام الباردة أو الماطرة.
ومن اللافت أيضاً قدرة النحل على اختيار مجموعة متنوعة من العسل لتحسين صحتها عندما تمرض.
قدَّم عالم الحشرات سيلفيو إرلر وفريقه 4 أنواع من العسل المحقون بالطفيليات.
يقول إرلر، الذي يعمل حالياً في معهد يوليوس كوهن لألمانيا: "لقد منحناها خياراً"، وأفاد الفريق في دورية Behavioral Ecology and Sociobiology، بأن النحل المريض فضَّل عسل عباد الشمس الذي كان أيضاً أفضل دواء لمكافحة العدوى وسجَّل أعلى نشاط مضاد حيوي.
وفي حين أن مُربي النحل غالباً ما يترك بعض العسل في الخلية، يبدو أن وجود مجموعة متنوعة من العسل أمر مهم، إذ تشير الأبحاث إلى أن أنواع العسل المختلفة، المشتقة من النحل الذي يتغذى على أزهار شجرة العنقود السنطية أو عباد الشمس أو مزيج من الزهور، ينتج أنواعاً مختلفة من البكتيريا.
يشبه إرلر هذا التنوع بالصيدلية، إذ يشتري البشر دواء للصداع وآخر لألم المعدة، وفي الصيدلية نفسها توجد كل الأدوية، على حد وصفه.
ويوضح برينباوم، الذي شارك في تأليف المراجعة النسوية لتأثير العسل على صحة النحل لعام 2021، أن النحل قادر على بناء صيدلية العسل فقط إذا كانت الأزهار المناسبة متوافرة، ليس فقط من حيث العدد والتنوع، ولكن طوال موسم النمو.
هذا التنوع البيولوجي غير موجود في حقول المحاصيل الكبيرة التي يتم شحن النحل إليها كل عام لتلقيح المواد الغذائية الأساسية.
النظام الغذائي للنحل
يتكون النظام الغذائي لنحل العسل البالغ، من أمرين فقط: العسل وحبوب اللقاح.
يوفر العسل أو الرحيق غالبية طاقة الكربوهيدرات التي يحتاجها العمال لأداء الأنشطة اليومية. بينما توفر حبوب اللقاح جميع متطلبات النحل الغذائية الأخرى من البروتينات والدهون والفيتامينات والمعادن، حسب موقع جامعة Delaware الأميركية.
هذه المكونات الغذائية ضرورية لبناء الخلايا وعمليات التمثيل الغذائي، وجزء أساسي من الغذاء الذي تُطعمه النحلات الحاضنة لليرقات.
لذلك فإن الحرص على تأمين فرص صناعة النحل أدويتها ذاتياً عبر تأمين التنوع والمناطق المحمية كفيل بتعزيز صحة النحل.