تمتلئ حياتنا اليومية بكنوز خفية من المعرفة والبصيرة التي نكتسبها عبر تجاربنا الحياتية، إذ تؤثر الأحداث المختلفة التي نستوعبها بوعي أو من دون وعي، على مدى نضجنا وتطور شخصياتنا. وعن كيفية استفادتنا من هذه الخبرات، تكمُن الإجابة ببساطة في: التدوين وكتابة المذكرات اليومية.
إذ تعمل هذه الممارسة البسيطة على تحسين الوضوح العقلي والصفاء الذهني، كما توفّر القدرة على رؤية الصورة الكبيرة لحياتنا وتفاصيل يومنا، ما يجعل تلك اليوميات المكتوبة بمثابة فهرس لكل الأفعال والسلوكيات ومجريات الأمور التي نخوضها، بحسب موقع Lifehack المعرفي.
في هذا التقرير نستعرض فوائد الكتابة والتدوين اليومي على الصحة النفسية والعقلية، وكيف يمكن ممارستها بالصورة والوتيرة الملائمة لتحقيق الفائدة الأمثل.
فوائد الكتابة والتدوين اليومي
في تقرير نشره موقع BBC حول فوائد الكتابة اليومية، لفت إلى أنه في الغالب يعاني الكثيرون من صعوبة صياغة المشاعر والأحاسيس في كلمات، خاصة عند الشعور بالغضب أو الحزن أو القلق والمشاعر القوية.
لذلك تعد الكتابة في دفتر اليوميات طريقة فعالة للتعبير عن الأفكار والمشاعر دون خوف من إصدار الآخرين للأحكام، ولكي يتمكن الشخص من النظر إليها بموضوعية بعد الكتابة وتفريغ الأفكار وترتيبها.
1- فوائد الكتابة اليومية للصحة النفسية والعقلية
تقول أخصائية العلاج النفسي للأطفال والمراهقين مادي باركين، حول فوائد تدوين المذكرات على الصحة العقلية، إن الأمر يتيح للناس من مختلف الفئات العمرية التعبير عن ذواتهم من خلال صب وتوجيه تركيز الذهن والأفكار بطريقة تشبه التأمل، ووضعها في منظورها الصحيح بعد رؤيتها على الورق.
وتلفت الأخصائية إلى أن "التسجيل في دفتر اليوميات مفيد بشكل خاص لأولئك الذين يعانون من التوتر والقلق الوساوسي وسرعة التحفُّز والانزعاج".
كما تساهم عملية مراقبة حالتك المزاجية بانتظام عن طريق تدوين اليوميات، في تحديد مسببات التوتر والمشاعر السلبية خلال اليوم، كما يساعد في تحديد سلسلة الأفكار والمخاوف التي قد تؤثر على الحالة المزاجية. وبالمداومة على هذه العادة، يمكنك تحديد المشكلات ومعرفة متى ينبغي التدخل في علاجها وحلّها.
وتقول مادي لـBBC، إن التدوين في اليوميات يمكن أن يعزز أيضاً إحساس تقدير الذات واحترامها، وذلك لأن "التأكيدات والاقتباسات والحديث الذاتي الإيجابي والتشجيع الذاتي في دفتر اليوميات يمكن أن يكون وسيلة مفيدة لتذكير نفسك بأنك تبذل قصارى جهدك، وأن تسعى بالفعل وتبذل ما لديك لكي تكون شخصاً أفضل"، وفقاً لقولها.
2- تحسين القدرات الإبداعية ومهارات حل المشكلات
الكتابة اليومية يمكنها أن تصنع المعجزات لصحتك وقدراتك العقلية.
وشددت الأخصائية النفسية لـBBC على أهمية متابعة المحتوى الذي تقوم بتدوينه يومياً بعد المرور بالأحداث أو المحطات الحياتية المحورية، وذلك لكي يتمكن الشخص من ملاحظة وتحليل ما يمكن أن يقوم به لتجاوز الأزمات والتعافي من المواقف المؤلمة، وكيف يمكنه تحسين مهاراته في التعامل مع الأمور.
وإضافة إلى الحفاظ على تدفق أفكارك الإبداعية، يمكن أن تمنحك الكتابة المنتظمة نقطة انطلاق، من أجل التخلص من ضغوطات الحياة اليومية.
ووفقاً لموقع PsychCentral المتخصص في الصحة النفسية، يمكن أن يساعدك التدوين اليومي في الحصول على: أفكار أكثر تناسقاً ووضوحاً، والتعرف على الذات بشكل أفضل، والحد من التوتر والقلق، واكتساب القدرة على حل المشكلات بطريقة أكثر فعالية.
وفي دراسة نشرتها مجلة "العلاج النفسي المتقدم" عام 2018، لاحظ الباحثون أن إمضاء ما بين 15 و20 دقيقة من ثلاث إلى خمس مرات أسبوعياً من التدوين كانت كافية لمساعدة المشاركين في الدراسة على التعامل مع أحداث حياتهم المؤلمة أو المجهدة أو العاطفية، وتجاوزها دون مشكلات.
وكانت كتابة اليوميات فعالة بشكل خاص لدى الأشخاص الذين يعانون من أمراض خطيرة مثل السرطان.
3- طريقة الكتابة لها دور في تحقيق الفائدة
لا تتوقف أهمية كتابة اليوميات والتدوين اليومي على ما تكتبه فقط، ولكن تكمُن في الطريقة التي تكتب بها كذلك.
وأظهرت دراسة علمية أجرتها جامعة أيوا، أن تدوين الأحداث المُجهدة ساعد المشاركين على التعامل مع الأحداث التي مروا بها ومكَّنهم من تجاوزها، شريطة التركيز على ما كانوا يفكرون فيه ويشعرون به بدلاً من التركيز على المشاعر فقط.
بعبارة أخرى، يحصل الشخص على الفائدة الأكبر من التدوين اليومي عندما يروي قصته الشخصية، لا أن يكتب عن مشاعره فقط. واتضح أنَّ سرد القصة الشخصية يمكن أن يُحدث فرقاً كبيراً في مستوى الرفاهية العامة للفرد ومدى رضاه عن حياته.
4- الكتابة اليومية لها منافع عملية أيضاً
يمكن أن تكون الكتابة والتدوين الدوري لهما منافع عملية أيضاً، فهما يعملا بمثابة تذكير بما أنت عليه وما تريد أن تكون عليه، ما يساهم في تشجيعك على اكتساب العادات اليومية الصحية.
وتعمل عادة التدوين اليومي على إجبارك على أن تكون على دراية بأفعالك وسلوكياتك. وإذا كنت تتطلع إلى ملاحظة ما تأكله، فإن الاحتفاظ بمذكرات عن الطعام اليومي يعد وسيلة رائعة للبقاء منتبهاً ومراعياً لنظامك الغذائي، وهو أمر ثبت أنه يساعد الناس على تناول طعام صحي أكثر، وفقاً لموقع LifeHacker المعرفي.
كذلك ينطبق الأمر مثلاً على معدّل ممارستك للرياضة أو معدّل قراءتك اليومي، وما إلى ذلك.
وبالمثل، فإن مجرد كتابة الأشياء الإيجابية التي حدثت لك أو تتبُّع حالتك المزاجية يمكن أن يساعدك في تحديد الأنماط الجيدة في حياتك التي يجب أن تخصص لها وقتًا إضافياً، علاوة على الأشياء التي تجعلك تشعر بالسوء والإحباط ويجب عليك التخلص منها.
كيف يمكن البدء إذن؟
في البدء يمكنك اختيار الوسيلة التي تفضل الكتابة والتدوين بها يومياً، سواء كان ذلك في دفتر ورقي للمذكرات أو عبر حاسوبك أو هاتفك المحمول أو من خلال مدونة عبر الإنترنت. ثم البدء بكتابة ما يخطر على بالك مع محاولة الحفاظ على وتيرة ثابتة قدر الممكن.
وفي حالة ما إذا كنت لا تعرف من أين تبدأ الكتابة، قم بتدوين أي محتوى مهما بدا بسيطاً وقصيراً، واكتب عما كنت تفعله في يومك وكيف شعرت خلاله وكيف تشعر الآن.
وتنصح أخصائية العلاج النفسي مادي باركين نقلاً عن BBC، بعدم الإفراط في التفكير؛ حيث إن المجلة مساحة شخصية تماماً. ولا يجب أبداً أن تكون مثالية أو مهيأة بطريقة معينة لكي يقرأها غيرك. وبالتالي بدلاً من الحرص على تجنب الأخطاء الإملائية أو الكتابة بخط جيد، دع الكلام ينساب تلقائياً.
ولتسهيل عملية اكتساب التدوين والكتابة كعادة يومية، يُنصح أيضاً بالالتزام بها في مواقيت محددة وثابتة، مثلاً عند الاستيقاظ أو قبل الخلود إلى النوم، وذلك لجعلها جزءاً من الروتين اليومي.