ارتجف جسمي ورأيت الموت بعيني.. التجربة التي جعلت مني إنسانًا آخر

عربي بوست
تم النشر: 2021/06/22 الساعة 12:17 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/06/22 الساعة 12:17 بتوقيت غرينتش
حين ارتجف جسمي بالكامل وشعرت أنني دنوت من الموت/ Istock

هل بوسعي القول إنني تعبت دون أن يُنقص ذلك من قدري، ودون أن أُتهم بالضعف أو يقلل من قدرتي على التحمل؟

يأكلني القلق، يحولني إلى مخلوق آخر، بالكاد أتعرف على ملامحه في المرآة، أنا واحد آخر غير نفسي الآن، وأريد استرداد ذاتي من ذاتي ولم أعرف للآن.

لديّ عادة سيئة اكتسبتها منذ عدة أعوام، عادة تجعل قدمي تنتفض ليلاً، شحنات كهربية تسري بداخلي، لا أعرف أين بدايتها ولا أعرف كيف أفرغها لئلا أفزع.

لم تكن قدمي فقط، كان جسمي كله، فقدت سيطرتي التامة على أصابع يدي اليسرى، كنتُ أرتجف، لا برداً، بل خوفاً وقلقاً.

كنتُ أريد البكاء.

طوال الوقت، أريد البكاء.

ونحن صغار نريد أن نكبر، نتطلع لذلك جداً حتى إننا نستاء من قول الآخرين لنا إننا ما زلنا أطفالاً، ثم فجأة ينام المرء ويصحو ليجد أنه صار من "الكبار"، لا من الذين يراقبون الأمور من بعيد، أو ممن يفرغون الطريق للكبار، ممن لا يعرفون ما يحدث بالضبط، لكن يدركون بحدسهم الصغير أن هناك شيئاً ما يحدث، لكن لا يهم لأن الكبار سيتكفلون بالأمر، ولنعد نحن لألعابنا.

أريدُ أن أكون من الصغار مرة أخرى.

لا يعرف المرء أبداً ما قد تخبئه له الأيام، لكنه يعرف مع الوقت أن الأحوال تتبدل في أقل وقت يمكن لخياله أن يتصوره، هكذا فجأة، من اللاشيء ينقلب كل شيء رأساً على عقب. المفاجأة تشل تفكيرنا أحياناً، تجعلنا نريد أن نهدأ فقط لنفكر، ما الذي يمكن عمله؟ هل هناك أصلاً ما يمكن عمله؟ أم فات الوقت؟ هل إن فعلت شيئاً ما سيكون صواباً؟

أسئلة كثيرة، إجابات إما أن تجدها أو لا، في الغالب سيكون عليك أن تقف بمفردك، لا يهم، المهم أن تقف. المسؤولية ثقل، وثقل أشد وطأة لمن لم يعتَدها، وأنا لم أعتدها، وسقطت على رأسي فجأة بلا ترتيب مسبق، والخطأ الواحد بندم قد يستمر العمر كله.

هناك اختلاف بين مرضك ومرض المقربين منك، في الحالة الأولى قد لا تشعر بكل شيء حولك وقد لا تكن خائفاً بالقدر ذاته ومن تحب هو المريض، أوقات الانتظار تطول، تطول جداً وكأنها عمرٌ منفصل، لا يُحسب بالدقائق والساعات ولا حتى الأيام.

في أغلب أحزاني كنت أمتلك رفاهية الانهيار فعلاً، كنت أبكي بالساعات، أمتنع عن الأكل أو آكل بشراهة كما تستدعي الحالة، لكني كنت أنهار، هذه المرة لم أستطع فعل ذلك، لم أمتلك أي رفاهية، كنتُ أسقط، وما من يد -سوى يدي- بوسعها أن تمسكني.

ماذا كنتُ سأفعل؟

لا شيء، سوى الوقوف.

أتت العاصفة، وأنا كغصن وحيد يحاول أن يتشبث بالأرض لئلا ينقلع، لئلا يسقط كل ما يحمله، لم تنزعني العاصفة، لكنها أحدثت بي شروخاً.

بداخلي الآن بكاء متراكم، لديّ بئر كاملة ممتلئة عن آخرها، صرت كل حين أصب منه بسبب وبلا سبب، ممتلئة بالبكاء، أريد أن أبكي.

لا أعرف كيف استمرت قدمي في الوقوف، تورمت، صارت تصدر أصواتاً لكنها لم تسقط. هكذا، نستمر في الوقوف دون رغبة منا، سوى أن المقاعد ليست لنا الآن، الطنين في أذني يزداد، وكأن شخصاً يركض خلفي، بندول، صوت عقارب الساعة في ليلة ساكنة لا صوت فيها، طنين يزيد من توتري ويجعلني لا أتحمل أي صوت.

"الموت لا يوجع الموتى، الموت يوجع الأحياء" درويش.

في مرضي كان الأمر على خلاف ذلك، كنتُ في الجهة الأخرى.

في الحقيقة لم أخشَ الموت، وهذا ما لم أكن أتوقعه، كل الأشياء التي اعتقدت أنني سأهبّ لفعلها، كل الأحاديث التي اعتقدت أنني يجب أن أخوضها، الرسائل التي تخيلت أنني يجب عليّ أن أرسلها، كل شيء اعتقدت أنني إن علمتُ أن وقتي اقترب سأفعله.

لم أُحرك ساكناً نحوه.

يقربنا الموت من أنفسنا، ويبعدنا عن الآخرين، وحدهم الذين يحبوننا ستجد أيديهم الطريق إلينا، استلقيتُ في السرير، فكرت في كل الاحتمالات الممكنة وغير الممكنة، فكرت في كل شيء، لكن شيئاً داخلي لم يتحرك، لم يستفزني شيء لأقوم وأفعله، قررتُ الاستسلام، إن أتى الموت سأكون بانتظاره، لن يكون من المُجدي أن يفكر المرء بأشياء لن يراها، أليس كذلك؟ ماذا سيهمني بما قد يحدث ما دمتُ لن أكون هنا لأشهده؟

هكذا، مطمئنة للّاشيء، كنت أقضي أيامي بلا انتظار.

فيما عدا انتظار غير معلن للموت.

مر الموت فعلاً، لم يمر بجانبي، مر بي، ثم مضى.

كنت أحتال على الوقت، النهارات طويلة، لكنها كانت تمر إن سمح لي المرض بفعل شيء، لكن وحدها الليالي كانت الأكثر ثقلاً، لا تريد أن تنقضي، لا تريد دون ضيق في التنفس.

كنت أشعر بالموت.

كل ليلةِ

كان يأتي.

الآن، وبعد مرور الوقت أتذكر، أتذكر..

اللحظات التي لم أستطع التنفس فيها، اللحظات التي اعتقدت أن روحي ستصعد، اللحظات التي كان جسدي بكل ذرة فيه يئن، يرتجف، يغلي من الحرارة، كل هذه الأوقات جعلتني أتخلى.

أتخلى فقط.

أتخلى عن أشياء ظننتها مهمة، عن رهبتي، أشخاص اعتقدت أنهم قريبون، أشخاص كنت أقبض على أيديهم، وكل ما فعلته أنني أرخيت يدي من الألم فاختفوا، لا يجب أن نتمسك بما لا يتمسك بنا أليس كذلك؟ لا يجب أن تكون القبضة محكمة من ناحية واحدة فقط، تخليت عن الحياة بشكل ما، ليس تشاؤماً، ربما نضجاً يجعلك تفرق بين ما تريده وما لا تريد التمسك به، تخليت عن الحياة فعلاً، لكني تمسكت بها أيضاً، لكن من ناحية أخرى، من زاوية أخرى.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مروة الإتربي
كاتبة وشاعرة مصرية
كاتبة وشاعرة مصرية، مهتمة بالكتابة الأدبية والإبداعية والاجتماعية، صدر لها: نصوص " أنفاس أخيرة" عن دار مقام، زديوان "في المكان الخطأ" عن دار أثر.
تحميل المزيد