"يا باشمهندس يا باشمهندس"
هكذا اخترق عم مجدي بواب العقار المجاور بصوته الجهوري، صوتَ السكون الهادئ الممل الذي شابه فقط صوت تقليب الأسمنت بسكاكين المعجون لترميم سقف الشقة أسفلنا.
فأجبته في تعجب: "نعم يا عم مجدي!".
خاصة أن أي حديث سابق دار بيننا كان لا يخرج خارج إطار أماكن ركن السيارات، ثم تابع كلامه مطأطئاً رأسه ضارباً كفاً بكف: "دي المفروض تتعمل بأسمنت سويتر علشان تمسك".
قاصداً نوع الأسمنت المستخدم للترميم، بلهجة كلها تحدٍّ وسخرية لكون الباشمهندس لا يعرف ذلك.
فكرت داخل رأسي طويلاً: ما دخل عم مجدي بقصة ذلك السقف؟ لماذا هو متأثر بهذا الأمر ربما أكثر من أصحاب الشأن أنفسهم؟ هل يظن أننا قبل أن نقدم على خطوة مثل هذه لم نسأل ونستشِر مختلف آراء المختصين في مثل تلك الأمور للوصول إلى الحل الأمثل لهذه الحالة؟ هل يظن أننا انتظرنا نصيحته الخارقة التي ستنقذنا من هذا العبث؟
ثم قررت أنني سوف أنطقها بابتسامة مليئة بالندم كي يشعر عم مجدي كم أننا كنا تائهين دون نصيحته: "عادي بقى يا عم مجدي اللي حصل".
فضرب كفاً بكف آخر وأتبع: "عادي إزاي بس يا باشمهندس أنت المفروض فاهم".. صدقاً بداخلي هذه المرة لم أتحمل سخافة عم مجدي ونظرة عينه المليئة بـ"آدي المتعلمين بتوع الجامعة مش فاهمين حاجة". فكرت أن أشرح له قصة أقسام الهندسة وأنني لا تربطني بقصص الأسمنت والبناء أي صلة، ثم فكرت أنني لو ذكرت له لفظ الميكانيكا لن يخطر بباله سوى السيارات وميكانيكا السيارات، ولا أستبعد أنه إذا تعطلت بعد يومين سيارة أحد الجيران في حال معرفته، سوف أجده يقرع جرس شقتنا طالباً مساعدتي وحينها لن أتمكن من فعل شيء وسيكون وقتها قد أثبت عم مجدي نظريته عن فشل التعليم في مصر.
ربما تلك هي الحقيقة دون ريب، ولكن ليس أبداً من منظور عم مجدي الذي يحاول إثباته، لكن على أي حال قررت رغم غيظي أن أصمت ثانية لإعطاء عم مجدي نشوة الانتصار التي أرادها حتى وإن كانت كاذبة، لأنها حتى وإن لم تأتِ الآن.. فهي آتية لا محالة.
على أي حال ليست قضيتي عم مجدي في حد ذاته، قضيّتي هي الفتوى التي صارت تخرج من كل مكان ولسان، عدا الأماكن والأشخاص المعنيين.
قضيت سنة كاملة أنادي أحدهم بـ"يا دكتور" دون أي مبرر سوى أن الجميع يلقبونه "دكتور"، في كل لقاء جمع بيننا تحملت نصائحه الكارثية في الطب التي كنت أعلم عبثيتها من معلوماتي العامة، وداومت على التزام الصمت منعاً لإحراجه أو ربما احتراماً لجهلي، حتى اكتشفت أنه حاصل على الدكتوراه الشرفية في اللغة الصينية ليس إلا! لم أحزن لكونه ليس طبيباً ويفتي في الطب قدر ما حزنت لكون الدكتوراه شرفية من احتفال شرفي ربما لم يعلم عن حدوثه شخص سواه بصحبة بقية الحضور ورغم ذلك أجبر جميع من حوله على مناداته بذلك اللقب الذي يحمل الكثير من علامات الاستفهام.
ربما لا أدعي المثالية فأنا كثيراً ما أكذب، ولكنه كان يتنفس كذباً، كان يعتقد أنه بدون كذباته المفضوحة تلك ليس له قيمة، رغم كونها في واقع الأمر مصدر انعدامها، كانت جميع رواياته مبالغاً فيها، فمثلاً إذا مرت ذبابة أمام عينه سيروي الأمر كالتالي:
"في الأمس قبل أن أنام على فراشي الملبد بالألغام هاجمتني جيوش متوحشة من الذباب الأزرق المنقرض، وقائدة جيوش الذباب المتوحش أمرت بالهجوم المباشر على عيني بوجه الخصوص لأنها غارت من جمالها، ولولا قوة رموشي وامتلاكي ثلاثة حراس في الأمام غير بقية البشر لم أكن لأنجو أبداً!"
وعلى جانب آخر رواياته عن الأشخاص ستجدها دائماً من قبيل:
"لقد قابلت فلاناً وحدثني فلان وساعدت فلاناً وشكرني فلان ومجد ندرتي فلان"، في حين أن فلاناً وفلاناً وفلاناً ربما لم يحدث بينه وبينهم إلا صدفة عابرة مرت مرور الكرام.
ليس مجرد كذب عابر من بشر خطاء كان تجمّله هو الرجاء والغرض، ولكنه كذب من قلب مدمن حتى صار نوعاً من أنواع المرض!
ربما آخر الفتاوى التي سمعتها لم تحدث معي شخصياً، ولكن حدثت مع صديقي الطبيب وأنا بصحبته عند الحلاق الذي كان يستشيره في أمر أخذ اللقاح، وأنه قام بخطوة التسجيل، ولكنه خائف، وبدأ صديقي في طمأنته بكلام علمي دقيق يخاطب العقل والمنطق، حتى قام أحد الجالسين صارخاً: "أنت إيه اللي بتقوله له ده يا أستاذ حرام عليك أنت عايزه يموت؟ بقولك كل اللي أخدوه ماتوا!".
صدقاً لم أملك سوى القيام للنظر في المرآة أمامي للتأكد من وجودي لأنني حسب الكلام من المفترض من هؤلاء الذين ينعمون الآن في الحياة الأخرى، ولم أجرؤ أن أفتح فمي أنا وصديقي بكل تأكيد بعدما حلف ذلك الشخص على الحلاق بالطلاق أنه لن يأتي عنده ثانية إذا فعل تلك الفعلة الشنعاء في نفسه.
وعلى نفس المنوال في حياتك اليومية، سترى لافتات الأخصائي الاستشاري، والاستشاري الأستاذ أو ربما رئيس القسم، وستقابل يومياً في المواصلات الأسطى الباشمهندس، وستلقى البكوية المبنية على القوة البدنية، والبشوية التي قد يتم شراؤها مقابل ثلاثة جنيهات بقشيش لعم محمد على قهوة شباب المعاشات.
وستصادف نوعاً من الدعاة الذين يظنون بجفائهم وغلظة قلوبهم أنهم يحملون لواء الدين رغم كونهم أكثر المنفرين، والحشاشين المتشددين، والتفاسير الجديدة التي تخرج على ألسنة العامة البعيدين.
طاقات مكبوتة تخرج في غير موضعها كل يوم تنفيساً عن فشل كلٍّ منا في مهمته الحقيقية، فيصنع مهرباً هُلاميّاً عن طريق الكلام يشعر من خلاله بقيمة زائفة لا تغير شيئاً من الحقيقة، حقيقة أن أفعالك هي خير مثال على أفكارك، فإذا تبنيت فكرة يجب أن تكون خير مثال في كل شيء لتمثيلها حتى تبلغ حدود المنطق داخل الرؤوس، وأن تصبح خير مثال ذلك في حد ذاته لن يكفيك عمراً حتى تبلغه، تحتاج لكل لحظة ودقيقة حتى تصبح النسخة الأفضل من نفسك قبل مماتك.
وربما ذلك المقال في حد ذاته تنفيسٌ عن فشل لم أستطِع تحديد مصدره حتى الآن.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.