لا أنفَك هذه الأيام عن ترك ذاكرتي تجوب حيث تشاء، وبالأحرى لا يسعني أن أفعل غير ذلك. الطبلية الدائرية والأطباق المُشترَكة والعُصبة والصخَب، صوت أمّي تؤكد على السلَطة وأبي يصُب التمر، إحداهُنّ تحمل الأطباق والأخرى تسير على مَهل بحلّة المحشي.
وقوف إخوتي الصغار في شرفة بيتنا المُطلّة على الخَضَار يُنصِتون لأولِ حرفٍ من أذان المغرب ليُهلّلوا (افطروا افطروا أذِّن)، اللحظة التي تتعالى فيها الهمهمات (ذهب الظمأ وابتلّت العروق وثبُت الأجر إن شاء الله) وتُسمَع حروفٌ من الدعوات التي تُلحّ على الله، ورجاء أبي ألّا تنفرط عقدتنا وأن تُدام مقاعدنا مملوءة.
كيف يُمكنني أن أُنحّي كل تلك الثروة جانباً؟!
لا أُنكِر أن دفء طفولتي يُحيطني، لكنّ الحقيقة أنّه مهما انفصلنا عن دائرة الأهل نبقى مُلتصقين بطريقةٍ ما، حتى لو في الذاكرة. منظر ذهاب الناس للتراويح ومنظر خروجهم يتحاكون ويضحكون، صوت الأطفال في الشوارع حتى السحور واللعب. هذا الصخب الذي تتنغّم أُذناك بضوضائه وتنعم روحك بضجيجه، المُسبب لصُداعٍ تستحسنه.
هذه المشاهد التي تواسينا في البُعد وفي الوقت ذاته تُدمل جُرح الغربة، الغُربة تحديداً في هذه الأوقات لا تقل تعبيراً عن غرفة مُغلقة بأربعة حوائط فارغة وباب موصود، لأنّه لا زينة كزينة شوارع مصر ولا صوت حَسَن كصوت أطفال البلد ولا لمّة مُباركة كالتي في بيتنا.
أذكُر ونحن صغار أكثر، كُنّا نصنع صحن عجين ونأتي بالكُتب القديمة ونجلس على عتبات الديار ونصنع قصائص ورق الزنية بخيطٍ وعجين دون حتى اللجوء للصمغ، لم أكن أدري أنّه مع القصائص أصنع قصّة سأحكيها لنفسي دوماً كي لا أنسى أنّ الدنيا لم تكن قاسية من قبل وأنّني نلت منها حظاً من اللُطف عظيماً.
على كُلٍّ ورغم أنّنا مساكين الذاكرة إلّا أنّنا لا نُنكِر على الله فضله ورحمته ولُطفه وأنّنا نحاول أن نكون نحن الصغار في كل موسم وأنّنا بالمحاولة أن نسترجع الذكريات نُثبت بالبراهين أنّنا عالقون.
الآن.. أحاول في بيتي أن أكون "أُمّي" في الغُربة، أن أصنع ذكريات وطقوس تعيش لي ولبيتي، أن يظل أبنائي يشعرون بالدفء كلّما تذكّروا طقوسي ورائحة صحنهم الأحب. أنا مدينة لأهلي على تلك الثروة التي أتلحّفُ بها في البُعد وبذات اللحظة تُشعِرني كم كان قاسياً قرار الغُربَة.
لكن على أي حال، هُناك الذي هو أقرب من هُنا، ستظل الأبواب مفتوحة والصحون ممدودة ومقعدي محجوزاً ولحظات من غنيمة العُمر تنتظر.
وحتى تحين تلك اللحظات، لو كنتَ تقرأ هذا الآن وما زلت في بيت أهلك وتجلس بينهم في الفطور والسحور فنصيحتي لك أن تأخذ ما استطعت وما لم تستطع من الحُب والوَنَس، أن تدّخر القصص حتى ترويها لتؤنسك، أن تكتب قائمة أمنياتك بينهم، ما الأكلة التي تُحبها أكثر لتأكلها أكثر؟ وأن تلتقط فيديوهات كثيرة فيها صخبهم وضحكتهم وأن تصنع ذكريات تعلم جيداً أنّها يوماً ما ستكون ذخرك وذخيرتك أمام الوَحشة والكآبة، وألّا تفوت لحظة قد تُنجّيك يوماً في عاصفة الذاكرة حينما تأتي مواسم تجلّي الذاكرة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.