يحيى علي، وُلدت لأسرة متوسطة الحال من أب وأم، هم أصحاب فضل كبير عليّ بعد ربي، درست في الأزهر الشريف مذ كنت في الصف الأول الابتدائي وحتى الثالث الثانوي إلى أن فُصلت منه بعيد أحداث ميدان رابعة، وكانت دراستي في الأزهر أحد العوامل التي أثرت إيجاباً في إتقاني للغة العربية التي بدورها كانت أحد أسباب نجاحي لاحقاً.
أكملت ثانويتي في السودان طيّبة الأهل صعبة المعيشة، تخرجت فيها وكانت الحيرة إلى أين أذهب؟
ماليزيا؟ تركيا؟ أيهما أفضل وأنسب؟!
ذهبت لاحقاً إلى ماليزيا ومكثت فيها سنة كاملة وكانت تلك السنة مليئة بالمشاكل والعقبات التي كلما تغلبت على إحداها وقعت في شرك الأخرى، ولكن الحق يقال إن ماليزيا هي الأخرى طيّبة الأهل صعبة المعيشة، تشتاق إليها كما السودان، ترغب في ملامسة أرضها ولكن لا ترغب في أن تعيش بها.
الوصول إلى تركيا
إلى أن انتهى بي المطاف في تركيا، تركيا التي كانت وما زالت وستظل السهل الممتنع، دولة تشبهنا كعرب بلداً وثقافة وشعباً، بلد لا تشعر فيها بغربة المكان، ولا الاختلاف التام للإنسان.. ولكنها هي القريبة صعبة المنال، مذ أن دخلت تركيا ولا أنسى فضل أقربائي فيها بعد الله، فهم كانوا السند والعون، ولكن بقي الجزء الأكبر والأهم! ماذا سأفعل؟ كيف أشق طريقي؟ كيف أدخل إلى هذه البلد؟
وكان الطريق متعدد المفارق؛ مجتمع عربي منغلق، تعيش فيه حياة شبيهة بحياتك القديمة ولكنها مختلفة المكان، أم مجتمع تركي منفتح، تعيش فيه حياة فيها من الاستقرار ما هو محمود ولكنها ذات ضرائب أخرى لا تشبهنا. أم حياة متوازنة فيها الاختلاط بين هذا وذاك؟
وكان القرار بالاختلاط المتوازن، إذاً يجب عليّ حتى أدخل هذا المجتمع أن أعرف لغته وأفهم ما يقول. وهذا عظيم جداً ومفهوم. دخلت إلى "معمعة" هذا الطريق وكانت الصدمة!
عقبات وصعوبات
لغة مختلفة المنطق (معكوسة اتجاه الجمل) ولكنها تحتوي على الكثير من المفردات العربية (نحو 40% من الكلمات عربية الأصل) فكيف أبدأ، وكيف أصل؟
كان الهدف هو تحدث "التركية"، فقلت كيف أقول إنني أتحدث لغة؟ وكان الجواب: لا تقل إنك تتحدث أي لغة قبل أن تغلق عينيك فتستطيع التفكير بها.
وقد كان، بدأت الدراسة الأكاديمية للغة وظللت أدرس لمدة ٤ أشهر كاملة دراسة يومية. بدأت حينها أشعر بأنني بدأت أفهم، ولكنني لا أستطيع التكلم، لساني ثقيل، أفكر ملياً قبل النطق بكلمة أو جملة.. فكانت النصيحة أن أفصل تماماً اللغتين العربية والتركية عن بعضهما البعض. وبدأت حينها بمحاربة نفسي وترويضها وتحويلها إلى طفل صغير يريد تعلم الكلام، لا إلى إنسان بالغ عاقل يريد تعلم لغة أخرى، وكان هذا هو مربط الفرس. اللغة التركية لغة سماعية فهي تعتمد اعتماداً كلياً وأوحد على السمع إذا سمعت ستتكلم وإذا تكلمت ستقرأ وإذا قرأت ستكتب، هذه هي قاعدة هذه اللغة. بدأت أقول الطفل الصغير لا يعلم الكلام إذاً هو يربط صوراً ذهنية بكلام يقال أما عينيه، وعليه بدأت أشاهد مسلسلاً تركياً مكوناً من 70 حلقة كل حلقة منه ساعتان ونصف إلى ثلاث ساعات -وعملاً بنصيحة أستاذي كان عدم مشاهدة مسلسلات تاريخية حيث إن لغتها ليست لغة معاصرة وليست أحداثها أحداثاً يومية طبيعية نعيشها كل يوم- وكان التحدي أن أشاهده غير مترجم، لماذا؟ لأن طبيعة العقل البشري تتجه نحو الأسهل، فكان الحل هو إرغامها على الأصعب. بدأت بهذا المسلسل وعلى مدار 15 إلى 20 حلقة لم أكن أفهم شيئاً -أطرش في الزفة- وكنت أصبّ كل تركيزي مع المسلسل وأنفصل تماماً عن كل ما حولي من مؤثرات، بدأت بعدها أشعر بتحسن شديد بدأ لساني في التحرك، وحينها كان الوقت للانتقال للمرحلة التالية.
محاولات التحدث بالتركية
بدأت في محاولة التحدث، ولكن لم تكن سهلة حيث لم أكن حينها أخالط أتراكاً كثراً، ففكرت في أن الحل هو أن أرغم أحدهم على الحديث، وبدأت في النزول من المنزل وركوب المواصلات والتحدث مع كل من أراه بوجهي فاتحاً أي موضوع، ولم أكن أعبأ بأخطائي بل كنت أحاول أن أسمعها من المتحدث أمامي، وبدأ لساني حينها في الانطلاق شيئاً فشيئاً، ثم انتقلت بعدها لفترة من الزمن للحياة في سكن طلبة أتراك، حيث أرغمني ذلك على التحدث شئت أم أبيت، وكانت هذه الفترة هي فترة انقطاع تام عن اللغة العربية.
ثم كانت العقبة التالية هي دخول الجامعة، دخلت الجامعة أرى نفسي متحدثاً بطلاقة مع الآخرين ولكني أرى الكتب الأكاديمية ولا أفهم فيها شيئاً إلا اليسير، بدأت حينها مرة أخرى في العودة إلى اللغة ولكنها عودة متحدث يريد التعمق، وفي غضون شهر آخر استطعت التغلب على هذه العقبة، وحينها بدأت الدنيا تنفتح شيئاً فشيئاً، بدأت أرى الناس بشكل مختلف، بدأت أفهم كلامهم بشكل مختلف، أفهم الجيد من المستهزئ، أفهم الرسمي من العامي، أفهم الأكاديمي من غيره.
إتقان اللغة
أردت أن أطور نفسي بشكل أكبر، حيث إنه كانت مشكلتي في اختلاف طريقة النطق (الأكسنت) فبدأت في البحث عن مجال يكسبني الخبرة في هذه النقطة، فوصلت إلى الترجمة. والتي أصف مشواري فيها بالبداية من القاع، حيث بدأت في إحدى شركات اللوجستيات التي كانت تشغّلُنا كمترجمين لمدة 12 إلى 13 ساعة متواصلة وبمقابل 50 ليرة في اليوم، وهو ثمن غاية في الزهد مقابل ما يحصل عليه المترجم المحترف، ولكن كانت هنا البداية كنت أعمل في هذا المكان فقط لأكتسب الخبرة ولأتعلم وأبني علاقات تكسبني عملاء لاحقاً، عملت مع هذه الشركة لمدة عام كامل، تخللها عمل مع فريق البروتوكول بالأمم المتحدة في مؤتمر دولي نُظّم في تركيا، ومن ثم عملت في هيئة البريد التركي PTT، عملت بها إلى أن اكتسبت الخبرة اللازمة للعمل بمفردي، ولكن حينها كان لا بد من الاعتراف بأهليتي للعمل كمترجم رسمي، فكان على دخول اختبار ترجمة هو اختبار ليس بالسهل ولا بالصعب دخلته واجتزته بنسبة 94%، وحينها بدأت في العمل كمترجم رسمي محترف، وأنشأت حينها أنا وشريكي مكتباً للترجمة وما زلنا نتعلم.. قمت بعدها بأعمال منفصلة لصالح كل من "TRT"، وشركة بيرقدار للصناعات العسكرية، وحزب العدالة والتنمية، ووزارة الصحة التركية، ووزارة العدل التركية، وغيرها الكثير. وما زال الطريق طويلاً لاكتساب الخبرات والمعلومات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.