من المؤسفِ أن نصحوا بعدَ عمرٍ طويلٍ لندركَ بأنّ المسارَ الذي اخترناهُ لحياتنا لا يُشبه بالمُطلق ما كُنّا نتمنّاه ونجدُ فيهِ شَغَفَنا، حينها، سيكونُ من الصّعب الانفلاتُ من قبضة الحياةِ، فالرّوتينُ الذي نتأفّف منهُ الآن، قد نجدُ مشقّةً في الانفصال عنه، فنركُن للأمرِ الواقعِ، ونستسلمُ تحتَ حُجّة أنّ الوقتَ لن يُسعفنا للرّكضِ وراءَ أحلامنا، ممّا يجعل أهمّ سؤال في حياة كلّ واحد منّا هو: هل أقتفي أثر الطّريقِ الذي أريدهُ، أم أنّني خارجَ سربِ كلّ أحلامي؟
في إحدى محاضرات الفلسفة اليونانية، قال الدكتور إنّ "أكبرَ مخاوف اليونانيين كانَ هو الـ Hubris"، لكونهم مولَعين بالترتيبِ، وأخذ كلّ شيءٍ لموقعه الصّحيح، يومَها سألتُهُ: "كيفَ يُمكن أن أعرف أنّني في المكان الصّحيح؟" فقالَ: "لا يوجدُ مكانٌ صحيح لأيّ منّا؛ كُلّها مُتغيّراتٌ. لكن كلّما شعرتِ بأنّك ما زلتِ تتعلّمينَ، وأنّك أفضل في كلّ مرّةٍ. أنا هُنا، ليس لأنّني في مكاني المُناسب، بل لأنّني أستحقّ أن أكونَ هُنا، ولأنّني أرى بالفعل أنّني أستحقّ، والسّر يكمنُ في الجهدِ والاجتهاد".
يومَها، لم أفهم رَدّهُ بما يكفي، لكنّ الأيّام القادمة كانت شرحاً مُفصّلاً، حينها كانَ يتحدّث عن مكوّنات الدّولةِ اليونانية حسب تصوّر أفلاطون، والمُقسّمة إلى "القادة/الحُكّام، والمحاربين/الجنود، والمنتجين"، كما كَتَبَ على اللّوحِ المُصوّرِ لَدَيَّ. كُلّما أعدتُ النّظرَ إلى الصّورةِ، فهمتُ أكثرَ قصدَ الدّكتورِ من قولهِ، فأن أستحقَّ مكاناً، فهذا يعني أنّني لم أتطاوَل عليهِ، وأرى نفسي فيهِ. أمّا قولهُ: "وأنّك أفضل في كلّ مرّة"، فلا تشرحها سوى رواية "المعطف" لنيقولاي غوغول.
يلعبُ التوجيهُ دوراً أساسيّاً في رسم الطّريقِ، وبنفس القدرِ، فإنّ الأهلَ يجبُ أن يدعموا أطفالهم في اختياراتهم، دونَ أن يُمارسوا سلطة الاختيارِ بدلاً عنهم، فإن فاتك حُلمٌ، ليس من الصّحيح أن تدفع حياة ابنك ثمناً لتعويضِ حُلمك ورؤيته يتحقّق عن طريقِ شخصٍ آخر، فقد كانت هناك فتاةٌ، تطمحُ لأن تكونَ مُعلّمةً، لكنّ أسرتها كانت تُريدُ أن تجعلَ منها طبيبةً كمُحاكاةٍ لحلمِ والدتها الذي لم يتم، وفي النهايةِ توقّفت الفتاة عن دراستها بعدَ خمس سنواتٍ من المُعاناة النّفسية، ليسَ لأنّها لم تكن تدرسُ جيّداً، بل لأنّها كانت تشعرُ بالغُربة في التخصّص الذي لا تجدُ نفسها فيهِ، ولن تبرع فيها مقدارَ براعتها في ما تحبّه.
ولا أقصد بكلامي هذا أنّ على المرء أن يتركَ وظيفته مُقابلَ القيام بما يحبّهُ دونَ دعاماتٍ، وإنّما أتمنّى أن يكونَ هُناك توازٍ، وتوازنٌ، وحكمة، وتريّث في الانفلات، واختيار الوضع الحاليّ كوضع مُساعد على بلوغ ما نريده، تحتَ إيمانِ أنّ كلّ الطّرق التي مشينا فيها كانت مليئة برسائل لنا، وليسَ من الضّروري أن تكونَ محطّتنا الأخيرة. حينما علمَ هاروكي موراكامي أنّه سيكونُ روائيّاً، لم يترك إدارة مقهاهُ، بل كانَ يعملُ في إعداد الشطائر وإدارة شؤونهِ صباحاً ومساءً، ويكتبُ في الليل، لأنّه الوقت الوحيد الذي يجدهُ فارغاً للكتابةِ، ولم يختر أن يفرُغ للكتابةِ إلا حينما فازَ بجائزةٍ في الكتابةِ، ووجَدَ طريقاً للاستقرار المادّي من خلال كتاباته، ممّا يعني أنّ الهواية التي لا تطعمني كسرة خُبزٍ، ستظلّ شغفاً مُوازياً لن يتمّ التفرّغ لها إلّا حينَ تُصبح مصدراً للدّخلِ.
يختصرُ علينا الآخرونَ طريقاً طويلاً، من وَحي تجاربهم، لقلّة حكمتنا، نُدخلُ كلامهم من أذنٍ، ونُخرجهُ من أخرى، إلى أن نكبُرَ قليلاً، وتسقينا الحياةُ من تجاربها، آنذاكَ؛ نُصبحُ نادمينَ على عدم الاكتراث وعدم دراسة جدوى ما سنقدمُ عليهِ، لكنّ الماضي يجبُ أن يُتركَ في الماضي، ونُرَكّزَ على الحاضرِ، والآنِ. فـ "ما مضى فاتَ، والمؤمّلُ غيبٌ، ولك الساعة التي أنتَ فيها".
وكتنويهٍ آخر، فإنّ من الخطأ أن نُقارن بينَ شخصينِ لهما ميولٌ مختلفة، فكلّما فضّلنا أحدهما عن الآخر، وجدنا ميلَ الأخيرِ لأن يكونَ نسخةً من الذي نراهُ الأفضلَ. فلكلّ منّا طريقهُ الخاص، وقدراتهُ الخاصة، فالمجتمعُ بأسرهِ قائمٌ على هذا الاختلاف، حينَما سألَ المُفتش العديد من الأطفال عن أحلامهم، كانت أحلامُ معظمهم مُتشابهةً، لكنّ واحداً منهم قالَ إنّه يرغبُ في أن يكونَ عاملَ نظافةٍ، فسأله المفتش عن السّبب فقالَ إنّه لا يُطيقُ الفوضى وإنّ الجميعَ يحلمُ بأشياءٍ كثيرة، ولا أحدَ يُفكّر في البيئةِ.
الدقائق التي تفوت، لا يُمكن استرجاعُ ثانيةٍ منها، والوقتُ الذي سيأتي، لا يُمكن تعويضهُ، لكنّ بلوغَ سطحِ عمارةٍ بلا مصعدَ، يتطلّب الكثير من الجُهدِ من أجلِ بلوغِ نهايته، ففي كلّ درجةٍ عَقَبَةٌ، والطاقة التي نمشي بها في الدرجات الأولى ليست نفس الطاقة التي سنختمُ بها المشيَ، وأكيدٌ أنّنا لن نكونَ نفسَ من كُنّاهم منذ أوّل دَرَجةٍ؛ إلا إن نبتَ لنا جناحانِ ولم نستخدم السُّلَّمَ.
كيفَ أعرف أنّني أسلُك الطّريق الصحيح؟
1- أيتناسب الطّريقُ مع ما تريده؟
2- ألا تشعرُ بالنّدمِ حينَما تنامُ ليلاً وأنتَ تفكّر بأنّ الغدَ سيأتي مُحمّلاً بروتينٍ اختَرتَهُ، فإن كانَ ما تجدُ شغفكَ فيه، فلن تجدَ صعوبة في الاستيقاظ من أجله، ومن أجل تحقيق أحلامك فيهِ، أمّا إن كُنتَ تجدُ في نفسك خمولاً، وتكاسلاً، وقلّة عطاءٍ، فلستَ في مكان عطائك الصّحيح.
لقد تُهتُ، أيّ طريقٍ يجب أن أسلك؟
1- حينما نُقبل على لحظاتٍ ومنعطفات كبيرة في حياتنا، مثلاً كلحظة التخرّج، أو إنهاء الثانوية، فإنّ كليهما مُحدّد لما تبقّى من عُمُرِكَ، ويجبُ أن تتحمّل كامل عواقبهِ، لذلك على الإنسانِ أن يتريّثَ، ويسأل، ويعرف إيجابيات وسلبيات كلّ اختيارٍ، وفقاً لظروفه الخاصّة، أي أنّ النصيحة لا يجبُ أن تؤخذَ جافّةً وإنّما كحالةٍ مُطابقةَ للحالِ.
2- الذكيُّ، ليسَ من يمشي فقط، دونَ هدفٍ، وبلا وِجهةٍ، إنما من يخطّطُ لمستقبله، في كلّ خطوةٍ، كي يعيشَ مُرتاحاً ومستقرّاً كفاية.
3- قم بما تريدهُ، ولا تسجن نفسكَ في تجربةٍ تفشل فيها دائماً، فالفشل يجبُ أن يُحفّزكَ، لإعادة المُحاولة أو لتجربة حظّك في مكانٍ ستبرعُ فيهِ.
4- لا تنتظر أحداً ليفكّر في مستقبلك، فهو شيء يعنيك قبل أيّ شخصٍ. فقد لا تتلقّى الدّعم الكافي، لكن لا ينقُصُكَ سواكَ، فلا تنتظر شيئاً من أحدٍ، إن أتى، كانَ فيهِ خيرٌ، وإن لم يأتِ، فأنتَ لها.
أفرحُ حينما أجدُ شخصاً مُميّزاً في عَمَلِهِ، وأسعدُ حينما أرى شخصاً صارَ حُلمهُ مرأى عينهِ، وأتنفّسُ الصعداء حينما أرى شخصاً يعملُ في تخصّصه، بطريقةٍ جيّدة ومليئة بالحُبِّ، دونَ ضجرٍ، فقد امتلأت المكاتب بموظّفينَ وجوههم عابسة، إن اقتربت نحوَ واحدٍ منهم كأنما تطرقُ بابَ الجحيمِ، ومَرَدُّ كلّ هذا لقيام الناس بأعمالٍ لأنها المُتاحةُ، وليسَت ما يُريدونَهُ.
وكآخرِ فكرةٍ، فإنّ كلّ عملٍ على أتمّ الاستعداد لأن يستبدلك، دائماً هناك ما يُعوّضكَ في هذا العالم، لكن لا شيءَ سيعوّض أيّامك التي قضيتها بعيداً عن نَفسكَ، وأسرتك، ومُنهكاً فقط في العمل، بساعات إضافية كلّ مرّةٍ، وبلا عُطلٍ. لنفسك عليك حقّ، متى ما شعرت بأنّ طاقَتَك محصورةٌ، فلا تُفجّر غضبك في النّاس الذين أتوا لطلبِ خدمةٍ فقط لأنّ لكَ سلطةً تنفخُ ريشَكَ، ولا تصبّ غضبك على أبنائك الذينَ ينتظرونَك دائماً كي تحنو عليهم وليسَ أن تفجّر فيهم غضبَ مديرك عليكَ.
يوماً ما، ستفهم أنّ كثيراً ممّا فعلته في الرّكض وراء المادّيات لم يأكل سوى من صحّتك، فالتوازُن مُهمٌّ، وما دُمتَ تعملُ براتبٍ جيّد، فلا تتطاوَل وتسرف في مالك، وما دُمت تعمل براتبٍ جيّد فلا تبخل على أهلِ بيتك والمقرّبينَ. وهنيئاً للمستثمرِ، الذي يجعل المال يعمل عليهِ، ولا يعملُ كثيراً على المالِ.
قد يحدث معك ذاتَ يومٍ، مثل الذي حدثَ معي، ستتخرّجُ، دونَ أن تعرفَ وِجهَتَكَ، ستنظرُ إلى مسارك، وستعرفُ أنّكَ في نُقطةٍ، تسرَّعتَ، وانزلقت في اختيارٍ، لكنّك بعدها حاولتَ ألا تبتعدَ عن المسارِ، حاوَلتَ أن تعودَ إلى الطّريقِ، بالرّغم من كلّ الظّروفِ، تقولُ في نفسك: لم يفُت الوقت بعد، كلّ هذا جميلٌ، كانت حماقةً حُلوة، لكنّني لن أنسى فضل السنين الماضية، وأكسّر أسنان كلّ الطرق التي أوصلتني إلى هُنا، سأسيرُ، في نحوَ محطّاتٍ، قد لا يكونُ فيها استقراري، لكنّها ستكونُ طريقاً نحوَ الحُلم الكبيرِ الذي أنستني الحياة، فقد كانَ حُلماً بسيطاً، وشيئاً فشيئاً دَفَنَتهُ الأيّام، حتّى صارَ نسياً منسيّاً.
اسلك الطّريقَ الذي ترى فيهِ روحك الحياة، ولا تستسلم لأيّ شخصٍ يريدُ أن يدفنك حيّاً في مسارٍ لا تهواهُ، كن رزيناً بما يكفي، كي لا تتعلّق بحلاوةِ الأيّام، حتّى يُخيّل إليكَ أنّكَ مُعمِّرٌ فيها وما أنتَ إلّا زائرٌ.. فلا تقع في فخّ التعلّق بما ليسَ لك، ولا تنسَ نصيحة الدكتورِ، السّر في الاجتهادِ، ولا شيءَ يأتِ دُفعةً واحدة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.