كما هو الحال مع معظم الأشياء المتعلقة بالصحة العقلية، فإن الإجابة ليست حاسمة. نعم، القلق والاكتئاب ينتقلان بالوراثة، لكن العوامل البيئية، مثل تجارب الطفولة المبكرة تلعب أيضاً دوراً وتتفاعل مع جينات الإنسان فتساهم فيما بعد بظهور هذه الأمراض أو الاضطرابات.
البداية مع القلق، ونعني بـ"القلق" اضطرابات القلق مثل اضطراب القلق العام (GAD، الذي يحتاج للعلاج والأدوية)، واضطراب الهلع.
تتوارث العائلات مرض القلق، ما يثير التساؤل عما إذا كان بسبب البيئة والثقافة المشتركة، أو الجينات، كما يقول جيمس بوتاش أستاذ الطب النفسي والعلوم السلوكية في مركز جونز هوبكنز ميديسن.
"من الواضح أن عدداً من اضطرابات القلق لها مكونات وراثية"، كما يقول، حيث أظهرت الدراسات أن التوائم المتطابقة، الذين يتشاركون جميع جيناتهم تقريباً، أكثر عرضةً من التوائم مختلفي الجنس، الذين يتشاركون نصف جيناتهم فقط، وهذا يعني أن لعلم الوراثة دوراً كبيراً.
ومع ذلك، فإن اضطرابات القلق، مثل الاكتئاب والاضطرابات النفسية الأخرى، قد لا تنتج عن جين واحد؛ بل مزيج من عدة جينات، كما يوضح الأستاذ ورئيس قسم الطب النفسي في كلية الطب روتجرز نيو جيرسي، بيتروس ليفونيس.
يقول بوتاش لموقع Mic الأمريكي، إن هناك تأثيراً صغيراً لهذه الجينات، التي يتفاعل بعضها مع بعض فتؤدي إلى الإصابة باضطراب نفسي معين.
هل ينتقل القلق والاكتئاب بالوراثة؟
ويعمل العلماء على تلخيص المتغيرات الجينية وإنشاء درجة للمخاطر الجينية الإجمالية التي تؤدي للإصابة باضطرابات القلق والاكتئاب.
يقول بوتاش: "هذه النتائج لها بعض القيمة التنبؤية، لكنها ليست دقيقة بالشكل المثالي الذي نطمح إليه".
لذا، يبدو أن الوراثة تفسر بالفعل بعض اضطرابات القلق، مثل اضطراب الوسواس القهري (OCD) واضطراب الهلع، أكثر من غيرها، كما يقول بوتاش.
لكن البحث لتحديد الجينات المرتبطة باضطرابات القلق لا يزال مستمراً، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن تجنيد العدد الهائل من المشاركين اللازمين لتحقيق نتائج نهائية يستغرق وقتاً.
عندما يتحول التحفيز إلى ضغط
ولفهم كيفية تأثير الجينات على تطور اضطرابات القلق، من المفيد تصور ما يُعرف بمنحنى يركيس-دودسون، على شكل حرف U المقلوب، كما يقول بوتاش.
يقيس المحور السيني التحفيز، بينما يقيس المحور الصادي الأداء.
مع زيادة مقدار التحفيز، يرتفع الأداء أيضاً، وهذا السبب غالباً ما ترى الفرق الرياضية تضخم نفسها وتشجع نفسها قبل وقت المباراة.
لذا، في مرحلة ما، يرتفع الأداء كما يمثله الجزء العلوي من حرف U المقلوب، و"عندما يزيد التحفيز بعد ذلك، فإنه يصبح ضغطاً"، كما يوضح بوتاش.
"ثم يبدأ الأداء في الانخفاض…. من الواضح أن هذا أحد أكبر عناصر القلق. إنه تحفيز يتجاوز ما يمكنك معالجته والاستجابة له"، على حد تعبيره.
بالنسبة للأشخاص الذين يعانون من اضطرابات القلق، فإن منحنى يركيس دودسون يبلغ ذروته نحو الجانب الأيسر من المحور السيني، مما يعني أن المستويات المنخفضة من التحفيز تؤدي إلى التوتر.
يمكن أن تؤثر العوامل الوراثية على المكان الذي يصل فيه هذا المنحنى إلى ذروته، بعبارة أخرى، مرونة الإجهاد لديك.
تجارب الطفولة المبكرة عامل أساسي
يقول بوتاش إن تجارب الطفولة المبكرة تساعد أيضاً في تشكيل هذه المرونة بعد البلوغ.
ويضيف: "يتغير الدماغ باستمرار خلال الطفولة، وجزء من هذا التغيير ينطوي على تشكيل نفسه ليكون مستجيباً للبيئة بأقصى درجة"، بحيث تقلق وتسترخي في الأوقات المناسبة.
أما تجارب الطفولة السلبية، فتضيف مجموعة كيميائية معينة إلى مناطق معينة من الجينوم الخاص بكل إنسان، كما يقول بوتاش.
هذه التغييرات تسمى التغيرات اللاجينية و"يمكن أن تغير أداء جيناتك طوال حياتك"، إذ تساعد في تحديد أين يبلغ منحنى يركيس-دودسون ذروته.
على الرغم من أن التأثيرات اللاجينية للاعتداء الجسدي والجنسي هي الأكثر دراسة، فإن تجارب الطفولة السلبية الأخرى تؤثر أيضاً على قدرة الإنسان على تحمُّل الضغط.
ومع ذلك، فإن وراثة الاكتئاب ليست مباشرة. إذا كان شقيقك أو والدك مصاباً بالاكتئاب، فأنت معرض لخطر الإصابة به أكثر بمرتين إلى ثلاثة أضعاف من عامة السكان، وفقاً للمعاهد الوطنية للصحة الأمريكية.
ومع ذلك فإن العديد ممن أُصيب أفراد أسرتهم بالاكتئاب لا يصابون به، بينما يصاب الآخرون به رغم عدم وجود تاريخ عائلي له.
يقول بوتاش: "قد يكون الاكتئاب وراثياً بنسبة 35% أو 40%".
ويضيف: "تماماً كالقلق، من الواضح جداً أن الأشخاص الذين يعانون من أحداث حياتية مرهقة متعددة، ترتفع مخاطر إصابتهم بالاكتئاب. أولئك الذين يصابون بهذا الاضطراب عادة ما يكون لديهم بعض القابلية الجينية المتزايدة للإصابة به، إضافة إلى أحداث الحياة المجهدة".
أما الذين يتحملون تجارب حياتية مرهقة ولكن لا يصابون بالاكتئاب، فمن المحتمل أن يستفيدوا من جيناتهم، مما يجعلهم أقل عرضة للإصابة.
ولعل ما يزيد الصورة تعقيداً، أن الاكتئاب والقلق يسيران جنباً إلى جنب، و"من الشائع جداً أنه عندما يصاب الناس بالاكتئاب، فإنهم يصبحون أكثر قلقاً"، على حد تعبيره.