ينعى اللبنانيون حظهم هذا العام، فقد أقبلت أغلب الأسر اللبنانية على عيد الأضحى وهي تعلم يقيناً أنها لا تملك ثمن شراء اللحم لأبنائها، فتوابع الأزمة الاقتصادية تلقي بظلالها على البيت اللبناني، حتى إن هناك شبه إجماع بين اللبنانيين دفعهم للتخلي عن أهم وجبة تعودوا على تناولها كل عيد، حتى إن بعضهم صار يردد المقولة التقليدية في هذا النوع من المناسبات "عيدٌ.. بأية حال عدت يا عيد".
أسعار اللحم كالذهب
في الشهرين الماضيين، ارتفعت أسعار اللحوم في لبنان بشكل كبير، فقد لامس كيلو لحم الغنم 90 ألف ليرة لبنانية بعدما كان سعره 40 ألف ليرة لبنانية -سعر الدولار 8000 ليرة لبنانية- وما يقارب 50 ألف ليرة لبنانية لكيلو لحم العجل، بعدما كان سعره 16 ألف ليرة لبنانية، والسبب الرئيسي لذلك هو ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية بنسبة 5%، في الوقت الذي تستورد لبنان أغلب احتياجاتها من المواشي.
من اللحم إلى الحبوب
تعد أكلة ورق العنب باللحمة والأرز باللحم والمشاوي من الأكلات الرئيسية على المائدة اللبنانية في الأعياد، خاصة بعد ذبح الأضحية، لكن يبدو في هذه الأوضاع الرّاهنة أن اللبنانيين سيفقدونها في رحلة البحث عن بديل يناسب أوضاعهم الاقتصادية الجديدة.
مروة يوسف "اسم مستعار"، سيدة من عاصمة الشمال طرابلس، تعيل طفليها، تعوّدت وعوّدت أطفالها على طبق ورق العنب في أوّل أيام العيد، حيث هو أهم عادات أهل طرابلس في عيد الأضحى، لكنها تقول في حزن: "هذا العيد لا يشبه ما سبقه من أعياد، فأنا منذ رمضان الماضي لم يدخل اللحم إلى بيتي، وإذا أردت تذوق طعم اللحم أذهب للجزار ليعطيني بخمسة الآف ليرة فقط ـأقل من دولارـ لأُذيق أطفالي طعمها.
كانت مروة تشتري اللحم بشكل طبيعي رغم قلّة معاشها، ولكنه كان يكفيها بحسب قولها، أما الآن ورغم ارتفاع أسعار الحبوب فإنها مازالت أرخص من اللحم، فقد أصبحت مروة تتجنب دخول محلات بيع اللحوم، لأنها تعلم أنها لا تملك ثمنها.
وتختم مروة: "أبنائي يحتاجون أكل اللحم لأسباب صحيّة، لكنهم يتفهمون أوضاعي، وإن سألوني أنصحهم بالصبر، لأنها حتماً ستُفرج، وعلينا أن ننتظر ماذا عسانا أن نفعل في المستقبل؟"
لا أضحية للطبقة المتوسطة
الأوضاع الاقتصادية الجديدة لم تحاصر فقط الطبقة الفقيرة، بل صعدت للطبقة المتوسّطة أيضاً، تالا بدر، مواطنة لبنانية من بيروت، تستبدل لحم العيد بالدجاج في طعامها، وأحياناً تستبدل الاثنين بالحبوب.
رأت تالا نفسها عاجزة عن شراء أضحية هذه العام، تقول إنها إذا أرادت أن تشتري أضحية فسوف تضطر للدفع بالدولار، وإذا لم تدفع بالدولار فسوف تدفع حسب سعر الصرف في السوق السوداء، وهو ما قد يكلفها كل معاشها في ضربة واحدة، لذا تفضّل أن تشتري بهذا الثمن حاجات المنزل من جهة، وطعاماً وبنزيناً واحتياجات خاصة من جهة أخرى، قائلة: "لم يعد بإمكاني حتى شراء نصف أضحية".
وفي الجنوب يعيش الناس نفس الحال، محمود "اسم مستعار"، رجل يعيل عائلة من أربعة أفراد، وصاحب شركة في الجنوب، أصبح يشعر بالضيق من عدم قدرته على شراء اللحم، فهو لا غنى عنه في الجنوب في أول أيام العيد، وسط جمع من العائلة، وخاصة اللحم المشوي، ويقول: "أما هذه السنة فسوف نستبدل اللحم بالدجاج".
ورغم غلائه، فاللحم سيّد السفرة، لكننا لم نعد نقدر عليه، يقول محمود: "اعتدت على ذبح الأضحية كل عام، حتى في أيام الحرب كان الأهل يذبحون الأضحية ويشعرون بالعيد، أما اليوم فأصبح الوضع أسوأ مما مضى".
ويقول محمود مستاءً: "أخاف أن تصبح الأيام التي نحيي العيد فيها من الماضي، ونرويها كقصص لأطفالنا قبل النوم، أخاف أن نشتهي اللحم ونضطر لشراء عظام الماشية كي نذيق أولادنا طعمه، ورغم ذلك فالمساعدات لا تنقطع في الأعياد، فمن كان لديه لحم في ثلاجته وليس بحاجة إليه فسوف يتصدّقون به لمن يريد، أو يطعمون المساكين".
أسواق اللحم كالبورصة
على الجانب الآخر، أسعار اللحم لدى البائعين ليست ثابتة، فهي تتغيّر كل يوم وبفروق عالية، وتتغيّر أيضاً بين بائع وآخر، استطلع "عربي بوست" أسعار اللحوم في لبنان، من خلال اتصالات بعدد من بائعيه والجزارين، تبيّن أن أسعار اللحم كالبورصة.
فالأسعار في بيروت تختلف عن أسعار الجنوب التي تختلف أيضاً عن أسعار طرابلس، وعلى سبيل المثال، في ضواحي بيروت سعر كيلو اللحم يتراوح بين 35 و 40 ألف ليرة لبنانية، أما في طرابلس فيصل السعر إلى 60 ألف ليرة لبنانية، وفي الجنوب بين 45 و50 ألف ليرة لبنانية.
الأمر لا يتوقّف عند هذا الحد، فالأسعار تتغيّر يوماً بعد يوم، ومجدّداً أجرينا استطلاع الأسعار في ضواحي عرمون في يومين متتاليين، في اليوم الأول كان سعر كيلو البرغر 35 ألف ليرة، وفي اليوم التالي قال لنا صاحب المحل: "اليوم الكيلو بـ30 ألفاً".
وتختلف الأسعار بين لحّام وآخر، تقدّر المساحة بينهما بحوالي 50 متراً لا أكثر، فالبائع الأول يتحجّج بسعر صرف الدولار المرتفع، وآخر يتهم "زميله" في المصلحة بأن لحمه مثلّج، أو لحم برازيلي، وآخر يقول إن اللحم مضروب، وفي النهاية لا نعرف أيّهم نصدّق، لكن بالتأكيد جميعهم مستفيدون من هذه الأسعار.
المجاعة على الأبواب
مع تكاثر الأزمات وصعوبة الأوضاع الاجتماعية وتدهور الحالة الاقتصادية للبنانيين، انخفضت القوة الشرائية لدخل الفرد نتيجة الغلاء وارتفاع سعر الدولار، وبالرغم من تدعيم وزارة الاقتصاد اللبنانية لبعض السلع ومنها اللحوم، فإن الباعة لا يلتزمون بتسعيرات الدولة.
ما دفع منظّمة "Save Children" الدولية لإعلان أن الآفاً من الأطفال مهددون بالجوع بحلول نهاية العام، لأن عائلاتهم عاجزة عن تأمين حاجاتهم الأساسية، وأهمها الطّعام.
في المحصّلة، يحلّ عيد الأضحى والعائلات اللبنانية قد حُرمت أبسط احتياجاتها وأهم وجبة ينتظرونها بين العيد والآخر، ولا تقدم مؤسسات الدولة أي دعم أو رقابة أو مساعدات للعائلات الفقيرة.
فالدولة اهتمت بتوفير ملايين الدولارات لتنفقها على تزيين شوارع بيروت في الأعياد، في حين كان المواطن اللبناني أولى بها لتضخ في دعم أهم سلعة يحتاجها في العيد.