على مرّ التاريخ، اكتسبت البطاطس/البطاطا سمعةً سيئة؛ ويعود ذلك بالدرجة الأولى إلى البطاطا المقلية، باعتبارها السبب الرئيسي في زيادة الوزن ومرض السكري، وهذه ليست مبالغة في الحقيقة.
لكن على الجانب الآخر، فإن هذا المحصول لا يُقدّر بثمن، لا سيما أنه يتميّز بقدرته على الاحتفاظ بالعناصر الغذائية الرئيسية حتى بعد الطهي. والحق يُقال إن فوائد البطاطا كثيرة، من تقوية المناعة إلى علاج القولون، كما أن لها تاريخاً مثيراً للاهتمام.
والمفارقة أن دعاة الطعام الصحي يعتبرون أن فوائد البطاطا كثيرة وأنها صديقة للحميات الغذائية، وفي الوقت ذاته "عدوة" يجب الحذر منها وتجنب تناولها قدر الإمكان.. وما بين هذا وذاك، يبقى السؤال بشأن الوجه الحقيقي لملكة الموائد: هل هي قاتلة شريرة، أم مفيدة طيبة؟
لكن أولاً، ما هو تاريخ البطاطس؟
قبل 8 آلاف عام، لم تكن هناك بطاطا في العالم، إلا في مكانٍ بعيد لم يكن ليخطر على بال أحد أن يذهب إليه. هناك فوق جبال الأنديز، في أمريكا الجنوبية، جنوب البيرو الحديثة وشمال غربي بوليفيا.
ووفقاً لما ذكره موقع Vegetable Facts، بدأت قصة البطاطا منذ نحو 350 مليون سنة، عندما بدأت تتطور من سلفٍ سامّ لنبات الباذنجان، إلى شكلها الحالي في مرتفعات الأنديز.
لكن المستوطنين البشريين لم يصلوا إلى هذا الجزء من عالمنا إلا منذ نحو 15 ألف عام، وتمكنوا من تدجين البطاطا البرية نحو 8 آلاف عام قبل الميلاد.
من تلك النقطة فصاعداً، بدأ هذا المحصول رحلته ببطء عبر القارة، لكنه حظيَ باهتمامٍ كبير في القرن الخامس عشر عندما بدأ الغزاة الإسبان الأوائل في استكشاف ما وراء سواحل أمريكا الجنوبية.
ليس ثمة معلومة حول كيفية انتقال البطاطا من هناك إلى العالم أكمل، حتى صارت المفضلة للفقراء والأغنياء على حد سواء. لكن أوروبا لم تعرفها إلا في منتصف القرن السادس عشر، فيما عرفها باقي العالم في أوقاتٍ لاحقة.
لكن تاريخ البطاطا المقلية ما زال حتى يومنا هذا مثار جدلٍ تاريخي كبير بين فرنسا وبلجيكا. فكل دولة تؤكد أحقيتها باختراع البطاطا المقلية. لكن الولايات المتحدة الأمريكية لم تدع لهما فرصة، فراحت تغزو العالم بوجبتها الأشهر "البرغر والبطاطا المقلية" من دون حديثٍ عن الملكية، تاركةً الحكم للجمهور.
وما قد لا يعرفه كثيرون أن إحدى أكبر المجاعات في التاريخ هي "مجاعة البطاطا"، وقد حدثت بأيرلندا منتصف القرن التاسع عشر. تسبّبت هذه المجاعة في تغيُّرٍ سكاني هائل بأيرلندا؛ فقد مات ما يقارب مليون أيرلندي، وهاجر نصف مليون. وفي نهايتها، كانت أيرلندا قد خسرت نحو ربع شعبها.
حدث ذلك بسبب مرضٍ أصاب البطاطس عام 1845؛ أُطلق عليه اسم "اللفحة المتأخرة"، وقد دمّر جزءاً كبيراً من المحصول طوال سبع سنوات متتالية، ما أدخل البلاد فيما سُمي بـ"الجوع الكبير".
عندما دخلت البطاطس إلى أيرلندا، كانت مجرد نباتٍ للزينة، ولكنّها مع مرور الوقت أصبحت طعاماً أساسياً للفقراء الذين يشكلون غالبية الأيرلنديين. نسبة 33% من السكّان كانوا يعتمدون في تغذيتهم على أكل البطاطا، كما استُخدمت أيضاً علفاً للماشية، وبهذه الطريقة كانت أي أزمة في هذا المحصول ستتسبَّب في كارثةٍ كبرى.
الحق أن البطاطس واصلت الانتشار بصمتٍ ونجاح بأنحاء العالم، حتى صارت أحد أعمدة اقتصاد عدة دول حول العالم، صارت "رائدة في إنتاج البطاطا" وهي: الصين، والهند، وروسيا، وأوكرانيا على التوالي.
فوائد البطاطا.. ولماذا نحبّها؟
تعد البطاطا رابع أهم محصول في العالم بعد الأرز والقمح والذرة، وتحتل المركز الأول كمحصولٍ لا ينتمي إلى الحبوب على مستوى العالم.
ففي إفريقيا وبلدان أمريكا اللاتينية، تُستهلك البطاطس بمقدارٍ يصل إلى 800 غرام يومياً للبالغين؛ وهو رقمٌ ضخم إذا ما قورن بمقدار ما يتم استهلاكه يومياً في البلدان المتقدمة، والذي يتراوح بين 50 إلى 150 غراماً يومياً للبالغين.
وفي الواقع، فإن أجسادنا هي من تحب البطاطا وليس نحن. في دراسةٍ حول البطاطا ومساهمتها في غذاء الإنسان، توصل باحثون إلى أن الوصول البيولوجي للبطاطس –الكمية التي يمكن امتصاصها من المغذيات بتجويف القناة الهضمية- أكبر بكثير مقارنةً بمحاصيل أساسية أخرى، مثل: الفول، والقمح.
كما أظهرت خصائص واعدة في تعزيز صحة المُقبلين على "زراعة الخلايا البشرية"، فضلاً عن خصائصها المضادة للسرطان والالتهابات، والكوليسترول، والسمنة، والسكر، عكس الشائع عنها!
ساهمت البطاطا في النظام الغذائي البشري لآلاف السنين؛ ويمكن القول إن أكثر فوائد البطاطا هو قدرتها على الاحتفاظ بالعناصر الغذائية الرئيسية حتى بعد الطهي.
والحق أنها مفيدة جداً؛ نظرة سريعة على فوائد البطاطا ستجعلنا ندرك دورها في تقوية المناعة، وعلاج القولون، وتنظيم الإشارات الكهربائية في العضلات والأعصاب، كما أنها مصدرٌ قوي للطاقة.
ولكن مهلاً، ما السرّ وراء السمعة السيئة لـ"البطاطس"؟
في دراسة نُشرت عام 2019 بالمجلة الأمريكية لأبحاث البطاطس، وصفها الباحثون بأنها "محصول لا يُقدّر بثمن" نظراً إلى أن فوائد البطاطا كثيرة وتساهم في العناصر الرئيسية للنظام الغذائي، وضمن ذلك فيتامين ج، والبوتاسيوم، والألياف الغذائية.
لكنها في الوقت نفسه قد تكون قاتلة، إذ يرتبط استهلاك البطاطا عقب طهيها بطرق معينة بأمراض خطيرة، كالسمنة، والسكر، وأمراض القلب؛ لتوصي الدراسة في النهاية بضرورة تأكيد أهمية أنماط الأكل الصحي للبطاطس، والاستفادة من العناصر الغذائية الكثيفة فيها.
أسوأ ما قد تفعله البطاطس
وفقاً للموقع الرسمي لمدرسة الصحة العامة بهارفارد، فإن البطاطا لا تعتبر من الخضراوات. وإذا أردت أن تأكل طبقاً صحياً، فلا تعتبرها من ضمن حصة الخضراوات، ذلك أنها تحتوي على نسبة عالية من الكربوهيدرات التي يهضمها الجسم بسرعة، ما يؤدي إلى ارتفاع نسبة السكر في الدم –الأنسولين- ومن ثم الانخفاض.
يكفي أن تعرف أن كوباً واحداً من البطاطا له تأثيرٌ مشابه لتأثير زجاجة الكولا، أو حقنة من الحلوى الهلامية، على نسبة السكر في الدم.
في الواقع يتم النظر إلى البطاطس باعتبارها السبب الرئيسي في زيادة الوزن ومرض السكري، وهذه ليست مبالغة. فقد تمّ إثبات الأمر عبر دراسة مجموعة من العادات وأنماط الحياة، لدى 120 ألف رجل وامرأة، طوال 20 عاماً.
وأظهرت الدراسة وجود علاقة بين زيادة استهلاك البطاطا المقلية أو المخبوزة، أو المهروسة، وبين اكتساب وزنٍ أكبر مع مرور الوقت. فقد اكتسب الأشخاص الذين استهلكوا البطاطا المقلية وزناً إضافياً، يتراوح ما بين 2 إلى 4 كيلو، كل أربع سنوات.
كما وجدت دراسة مماثلة أن هناك علاقة طويلة المدى بين تناول كميات كبيرة من البطاطس عموماً، والبطاطس المقلية خصوصاً، وبين زيادة خطر الإصابة بمرض السكري لدى النساء. وأن استهلاك الحبوب الكاملة بدلاً من البطاطس، يمكن أن يقلل من هذا الخطر.
كيف نستفيد من فوائد البطاطا؟
حسنا هل هي مؤذية جداً، أم مفيدة للغاية؟ في الواقع هي هذه وتلك؛ تماماً كالديناميت، يُمكن استخدامه في الحروب والقتل، كما يُمكن استخدامه في التنقيب عن المعادن.
أما عن تلك "الشعرة" التي تفصل بين فوائد البطاطا وأضرارها، فتوضحها دراسة علمية صدرت أخيراً في جامعة إديث كوان، حملت عنوان "لماذا لا تستحق البطاطس سمعتها السيئة"؟
شملت الدراسة 54 ألف شخص، وأكدت أن فوائد البطاطا كبيرة ولا يمكنها أن تكون مؤذية بأي شكلٍ من الأشكال، إذا تم تحضيرها بطريقة صحية. كما أن استبدال الارز والمعكرونة فيها من شأنه تحسين جودة النظام الغذائي بسبب كمّ الألياف والعناصر الغذائية الموجودة فيها.
إذاً، ما هي طريقة التحضير الصحية التي تجنبك أضرار البطاطس؟
يقول الدكتور بوراتيك بوخاريل، أحد مؤلفي الدراسة، أن فوائد البطاطا كثيرة وتبقى صحية ويمكنك الاستفادة من كل مميزاتها من دون أي ضرر، إذا ما تمّ استبعاد الإضافات غير الصحية مثل الزبدة والقشطة والزيت.
ويقول: "يتحدث الناس عن أن الكربوهيدرات سيئة، ولكن الأمر لا يتعلق بالكربوهيدرات إنما بنوعها. هناك نوع جيد ونوع سيئ، فقط احرص عند تحضير البطاطا ألا تكون مقلية أو مهروسة مع إضافاتٍ دسمة. نتحدث هنا عن البطاطس المسلوقة أو المشوية مع التوابل ومن دون أي دهون".