من المقبول تماماً الآن أنَّ شعورنا الشخصي بالذات مستمَدٌّ من الآخرين. إذ تقول آمبر غافني، أستاذة علم النفس الاجتماعي، من جامعة ولاية هومبولت:
"كلما زاد مقدار استمدادك لهويتك من مجموعة ما، حتى وإن لم تكن محاطاً بهذه المجموعة، زادت احتمالية تمسكك بهذه القيم.
لو كان جزء كبير من الطريقة التي تُعرِّف بها نفسك أنك طالب في جامعة ما، أو أنك -مثلي- أكاديمي، فهذا هو ما تأخذه معك في معظم تفاعلاتك مع الآخرين.
وكذا، فإنني أرى الأشياء أولاً من خلال عدستي بوصفي أكاديمية".
بحسب موقع هيئة الإذاعة البريطانية BBC؛ يميل الطلاب، إلى تبنِّي مواقف تجاه أشياء مثل تقنين المخدرات أو دعم الاستدامة البيئية، تكون أقوى من مواقف بقية السكان.
وتسمى هذه المعايير الاجتماعية. وفي حين أنَّ هذه المعايير عادة ما تكون مستقرة، فثمة بعض الأشياء المثيرة للاهتمام التي تحدث، في حال تصرُّف شخص واحد فحسب بهذه المجموعة المترابطة تصرفاً غير متوقع.
وسائل النقل مثالاً!
خذ مثلاً الدراسة التالية، التي وجدت أنَّ الناس كان من المرجح أن يغيروا رأيهم بخصوص وسائل النقل الخضراء (التنقل بطرق تحافظ على البيئة ولا تستخدم الوقود)، إذا اكتشفوا أنَّ أقرانهم كانوا يتصرفون بنفاق.
يقيم طلاب جامعة ولاية هومبولت في بلدة صغيرة ليبرالية اجتماعياً بشمال كاليفورنيا، تفخر بأوراق اعتمادها البيئية، كما أنَّ أغلب الطلاب هناك واعون بيئياً للغاية.
وكذا، من المتوقع أنَّ تجاهُل أحد الأقران لانبعاثات الكربون لن يمر بسلام.
بعد الاستماع إلى مقابلة مع أحد الطلاب في الجامعة، شدد فيها على أهمية المشي أو ركوب الدراجة لمسافات قصيرة بدلاً من ركوب سيارة، ثم بعد ذلك الاعتراف بأنه قاد سيارته وصولاً للمقابلة، سُئل المشاركون عن آرائهم البيئية.
فعلوا ذلك في حين كانوا جالسين بقرب أحد الممثلين. أدى هذا الممثل إما دور طالب ثالث يرتدي قميص الكلية، وإما دور مهني يرتدي ملابس أنيقة. وعند الكشف عن نفاق الشخص الذي أُجريت معه المقابلة، فإنَّ الممثل كان يقوم بإبداء ملحوظة سلبية حول سلوكه أو يلتزم الصمت.
توقَّف مدى حكم المشاركين على أهمية المشي أو ركوب الدراجة في المسافات القصيرة، على الشخص الذي استمعوا معه إلى المقابلة، وردّ فعل هذا الشخص.
فعندما كانوا يجلسون مع شخص يظنونه طالباً آخر، وكان يشاركهم القيم البيئية ذاتها، ردَّد المشاركون كلاماً عن أهمية ركوب الدراجة. وعندما كانوا يجلسون مع شخص خارج عن الجامعة، لم يكن موقفهم واضحاً بالقدر ذاته.
وعندما كان الشخص الغريب يعلق على نفاق الشخص الذي أُجريت معه المقابلة، فإنَّ ذلك كان يستدعي أقوى المشاعر البيئية في المشاركين؛ ذلك أنهم كانوا يعززون وجهة نظرهم الخاصة في أهمية ركوب الدراجة، من خلال الدفاع عمن أُجريت معه المقابلة من النقد.
وقد يرجع ذلك إلى أنهم شعروا بأنَّ من أُجريت معه المقابلة ربما كان في العادة أكثر مسؤولية من الناحية البيئية. وفي المقابل، إذا التزم الشخص الغريب الصمت، فإنَّ المشاركين كانوا يحكمون على أهمية ركوب الدراجة بدرجة أقل.
إذاً، كيف يمكن أن يكون حُكم شخص غريب على أقراننا له هذا الأثر الكبير على دعمنا لهم من عدمه.
التنافر غير المباشر
أضافت غافني: "كانت هذه دراسة مثيرة للاهتمام، لأننا كنا قادرين على جعل بعض الناس أقل مبالاة بالبيئة. عادة لا يكون ذلك شيئاً نودُّ فعله بنشاط، لكنَّ فهْم منبع هذه الآراء من الممكن أن يساعدنا في دفع الناس إلى الاتجاه الآخر".
قد ندافع عن أقراننا في مواجهة انتقادات شخص غريب، لكننا لو تُركنا لتكوين آرائنا الخاصة، فإننا نفسر السلوك النفاقي بوصفة إشارة على أنَّ بإمكاننا أن نخفف من وجهات نظرنا، ويسمى هذا الأمر التنافر غير المباشر.
تقول غافني:
"يحدث التنافر غير المباشر عندما ترى شخصاً يتصرف بطريقة غير متسقة مع مواقفك، لذا فإنك تغيّر مواقفك. ينبغي أن أشعر بالحرج لرؤيتك تتصرف بطريقة غير بيئية، لكنَّ ذلك لا يحدث دوماً.
لن أبداً بالضرورة في تقليدك، لكنني سوف أغيّر مواقفي، لكي أعكس سلوكك، لأنني أشعر بأنني أشبهك وأراك امتداداً لنفسي".
وقد استلهمت هذه الدراسة كثيراً من الدراسات في أستراليا حول التنافر غير المباشر بخصوص استخدام [منتجات] الحماية من الشمس. مرة أخرى، فإنَّ تصرُّف شخص ما بنفاق سوف يخفف من مواقف الناس حول وضع الحماية، في حين أنَّ القاعدة أن تكون حذراً للغاية.
وبإمكان الطريقة التي نتحدث بها حول خياراتنا الصحية مع الأصدقاء، أن يكون لها أثر كبير هي الأخرى على خياراتنا، بالإيجاب والسلب على حد سواء.
فالحديث مع الأصدقاء حول حملة لمكافحة التدخين قلَّل من استهلاك الناس للسجائر، ربما بسبب أنَّ هذه المحادثات أعطت المدخنين فرصة لمعرفة المعلومات الأكثر صلة بحياتهم، ومن ثم العمل وفقاً لها، وهذه نتيجة يدعمها التحليل التجميعي لـ28 دراسة، بلغ مجموع المشاركين فيها 139 ألف مشارك.
القيمة التي قد نحصل عليها
تقول كريستين شولز، من جامعة أمستردام:
"السبب الرئيس للوفاة هو السلوكيات الصحية التي يمكن الوقاية منها مثل التدخين والسمنة، ولدينا إمكانية الوصول إلى كميات هائلة من المعلومات على الإنترنت، لكننا ما زلنا ندخن، وما زلنا لا نمارس الرياضة.
أي شيء يفعله أصدقاؤنا يؤثر فينا بطرق نَعِيها أو لا نعيها. ويمكن أن يحدد حضورهم إذا ما كنا سنتصرف بناء على هذه المعلومة الصحية أو نتجاهلها".
وسألت شولز طلاب الجامعات في الولايات المتحدة إذا ما كانوا قد تحدثوا إلى أي شخص حول تجربة حديثة تتعلق بالكحول، وإذا ما كانت هذه المحادثات إيجابية أو سلبية.
إذا كانوا قد تكلموا على نحو إيجابي حول استهلاك الكحول، فإنهم يكونون أكثر احتمالاً أن يشربوا أكثر في اليوم التالي، والعكس صحيح. ومع ذلك، فهذه الأنماط تتأثر بشدة بالظروف الاجتماعية التي نجد أنفسنا فيها.
فعندما نتخذ قرارات فإننا نعيد باستمرارٍ تقييم القيمة التي قد نحصل عليها من كل خيار، وهي عملية تسمى تعظيم القيمة.
فقرارنا استخدام السلالم بدلاً من المصعد يعتمد على مقدار ما تناولنا من طعام في الغداء، وإذا كنا قد خرجنا بالفعل لفترة جرينا اليومي وإذا ما كنا قد مشينا إلى المبنى صحبة زميلنا العدّاء.
ومن ثم، فلا يمكن أبداً النظر إلى محادثة مع الأصدقاء بمعزل عن الظروف الأخرى، وهذا هو سبب تقلُّب قوة إرادتنا.
وتقول شولز: "لنقل إنني أجريت محادثة مع صديق بالأمس حول بعض الجوانب السلبية للكحول، لكنني في اليوم التالي ذهبت إلى الحانة مع أشخاص آخرين، فإنني ما زلت أزعم أنَّ هذه المحادثة كان لها شكل من أشكال التأثير عليّ.
ومع ذلك، فهذا تمثيل بسيط للغاية لاتخاذ القرارات الإنسانية. فنحن لسنا عقلانيين للغاية على الدوام، وإنما نتخذ هذه القرارات بسرعة كبيرة. وتتغير أهمية أنواع معينة من المعلومات في أثناء اليوم".
تتأثر خياراتنا بالأشخاص الذي نكون معهم عند طرح السؤال علينا، وردّ فعل هؤلاء الأشخاص، والمحادثات التي ربما نكون قد أجريناها مسبقاً، وفهمنا الأساسي لما هو الطبيعي بالنسبة لهذه المجموعة من الأصدقاء.
لكن إن كنا ما نزال في شك، فإنَّ أسهل ما يمكن فعله هو النظر إلى ما يفعله الآخرون وتقليدهم. ونحن نفعل ذلك طوال الوقت، وربما لا ندرك تأثير هذا الأمر.
الميل إلى نسخ السلوك
وقالت سوزان هيغز، التي تدرس علم الأحياء النفسي للشهية بجامعة برمنغهام: "عندما نأكل مع آخرين فإننا نميل إلى استخدام سلوكهم بوصفه دليلاً لنا.
أظهرت كثير من الدراسات أننا عندما نأكل مع الناس فإننا نأكل كثيراً، نأكل أكثر. لا يدرك الناس غالباً أنهم يتأثرون بهذه الطريقة. ربما يعزون الأمر إلى الطَّعم أو السعر أو مستويات الجوع، بدلاً من عزوه إلى الناس من حولهم".
وقد وُصفت هذه الظاهرة للمرة الأولى، استناداً إلى تحليل يوميات الطعام التي كتبها جون دي كاسترو في الثمانينيات.
ذكرت هذه اليوميات المفصلة ما أكله الناس، وأين أكلوه ومتى ومع من، وكان حينها قادراً على التحكم في آثار الوجبات الاحتفالية، وإذا ما تم تناول الكحول، وإذا ما كانت هذه الوجبة قد تم تناولها في عطلة نهاية الأسبوع، وأي عامل آخر ربما يكون قد أثر في كمية الطعام المأكولة.
وقد تكررت هذه الآثار منذ ذلك الحين في المعامل، إذ طلبت هيغز من الطلاب أن يتناولوا الطعام؛ إما مع صديق وإما منعزلين في المختبر. ويبدو أنَّ هذا الأثر يحدث حتى عند تناول الطعام مع صديق آخر في بيئة متحكَّم فيها للغاية. لكنَّ هذا الأثر يحدث فقط مع الأشخاص الذين تعرفهم جيداً.
وأشارت هيغز إلى أنَّ حضور شخص آخر يعيق قدرتنا على التقاط الإشارات من أجسامنا بالشعور بالشبع، إذ تتعطل العملية الطبيعية للشعور بالامتلاء، من خلال الشعور بالتحفيز من أصدقائنا. وتبين أنَّ المشتِّتات الأخرى، مثل مشاهدة التلفاز، تزيد من استهلاك الطعام.
بعد ذلك أخذت هيغز بحثها إلى الميدان، لكي ترى إذا ما كان يمكن التأثير على سلوكيات الأكل من قِبل إشارات اجتماعية أخرى.
أرادت هيغز أن تشجع الناس على اختيار أطباق جانبية من الخضراوات من خلال توفير معلومات حول خيارات أشخاص آخرين ممن يتناولون الطعام باستخدام الملصقات.
وقالت هيغز: "نعلم، بطبيعة الحال، أنَّ قولنا صراحة: (الخضراوات مفيدة لك)، لا يجدي نفعاً". بدلاً من ذلك عرضت الملصقات بيانات ملفقة حول أي الأطباق الجانبية التي اشتراها معظم الزبائن، ووضعت طبقاً جانبياً من الخضراوات في أعلى القائمة.
وقالت هيغز: "هذه الملصقات لم تزد على وصف سلوك أشخاص آخرين، وهذا أمر كافٍ بالنسبة للبعض. فعندما ندخل بيئة جديدة، فإننا نبحث عن إشارات حول كيفية التصرف. لذا، فأن نرى اختياراً معيناً هو الأكثر شعبية، فإنَّ ذلك يساعدنا حقاً".
وقد لوحظ هذا التأثير حتى بعد إزالة هذه الملصقات. لقد خلقت هيغز قاعدة جديدة.
وقالت هيغز: "هناك سبب وجيه لاعتقاد أننا عندما نستخدم السلوك المعياري فذلك يجعلنا نشعر بالراحة، لأننا نكون على تواصل مع مجموعة اجتماعية. إذا كنت مع مجموعة اجتماعية جديدة، فأنت أكثر عرضة لتقليد السلوكيات".
ربما لا تكون قراراتنا دائماً في أيدينا، لكنَّ ذلك يعني أيضاً أنَّ بإمكاننا استخدام نفوذنا في الخير. إذ قالت شولز:
"بالطريقة ذاتها التي يمكن أن ينتشر بها سلوك سلبي من خلال شبكة من الناس، يمكن أن ينتشر سلوك إيجابي من خلال شبكة من الناس. لقد تطورنا للعيش في مجموعة، لنشر التصرفات الإيجابية والسعي للحصول على استحسان الآخرين".