بعد التطهير العرقي يلاحقهم شبح الجوع.. ماذا تعرف عن مسلمي إقليم سنجق في صربيا؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/01/25 الساعة 16:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/01/25 الساعة 16:12 بتوقيت غرينتش
مسجد السلطان في وسط مدينة بلاف في الجبل الأسود/ Istock

بين كوسوفو والجبل الأسود، يقع إقليم سنجق الذي يضم شعباً مسلماً بوسنيّ الأصل، يطلق عليهم اختصاراً "البوشناق"، ورغم أن 87% من سكانه مسلمون، فإنه ما زال تابعاً لصربيا. فما هي قصة هذا الإقليم وما هو حال مسلمي البوشناق اليوم؟

السنجق معناها إقليم، وتُطلق على العلم أيضاً، واسم سنجق مشتق من سنجق نوفي بازار، وهو تقسيم إداري عثماني سابق. وتأسست نوفي بازار رسمياً مدينة قائمة بذاتها في العام 1461 على يد القائد العثماني عيسى بغ إساكوفتش، الحاكم البوسني للمنطقة (السنجق) ومؤسس مدينة سراييفو أيضاً، وهي عاصمة دولة البوسنة والهرسك.

قرر عيسى بغ إساكوفتش تأسيس بلدة جديدة في منطقة تراغوفيتشه لتكون مركزاً حضرياً وسماها نوفي بازار. أمر أولاً ببناء مسجد وحمّام عام وسوق ونُزل ومجمع سكني، وتشتهر المدينة بأنها أكبر مدن إقليم سنجق وعاصمته والعمق التاريخي والحضاري لأهل الإقليم.

أما البوشناق فترمز إلى البوسنيين أو مسلمي دولة البوسنة والهرسك وجوارها، ويتميز البوشناق عن مختلف المسلمين بأن الإسلام هو قوميتهم تمييزاً لهم عن العرق السلافي الذي كانوا ينتمون له قبل الإسلام.

وتاريخ إقليم سنجق حافل بالزلازل السياسية والحروب العرقية والدينية على حد سواء، بدأت مع نهاية الدولة العثمانية ولم تنتهِ حتى اللحظة.

إقليم سنجق
خريطة لإقليم سنجق باللون الأخضر متوسطاً صربيا والجبل الأسود/ Wikmedia

دخول الإسلام إلى إقليم سنجق

دخل الإسلام إلى سنجق على يد السلطان المظفر محمد الفاتح في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي. يمكنك قراءة تفاصيل فتح صربيا والبوسنة والهرسك من (هنا).

وتحت حكم العثمانيين لنحو 5 قرون، تبع إقليم سنجق البوسنة والهرسك، ثم سرعان ما فُصل عنه إرضاءً للصرب في سنة 1878 بعد مقررات مؤتمر برلين، التي أنهت الحكم العثماني للبوسنة والهرسك ومنحتها للإمبراطورية النمساوية المجرية.

هاجر عدد كبير من سكان إقليم سنجق رغبة وإكراهاً للاستقرار في أقاليم الدولة العثمانية وبلاد الشام ومنها فلسطين، ومن أشهر العائلات التي قدمت إلى فلسطين: لاكشيتش، بيغوفيتش، مرادوفيتش، جيهانوفيتش.

ولعل أشهر شخصية من البوشناق عرفتها بلاد الشام والي عكا أحمد باشا حلمي بشناق، الذي عرف بـ"أحمد باشا الجزار"، الذي أفشل طموحات نابليون عام 1799.

اقتسام الإقليم

خلال الحرب البلقانية بين عامي 1912 – 1913 اقتحمت جيوش صربيا والجبل الأسود أراضي سنجق وكوسوفا، وتم اقتسامهما مناصفة بين الدولتين.

ومع هذا الاقتسام – الذي أدى إلى توسُّع وتجاور صربيا والجبل الأسود – مارست الدولتان سياسات عنيفة ضد المسلمين هناك لدفعهم إلى الارتداد عن الإسلام واعتناق الأرثوذكسية أو الهجرة.

ومع تشكيل مملكة يوغسلافيا في عام 1918 (باتحاد صربيا وكرواتيا وسلوفينيا)، جرى صهر إقليم سنجق (ومساحته 8687 كم مربعاً) وكوسوفا في التقسيمات الإدارية الجديدة حتى تضيع هوية الإقليم، واستمرت الضغوط على المسلمين هناك، فهاجر عشرات الآلاف.

أثناء الحرب العالمية الثاني، في عام 1941 احتلت دول المحور يوغوسلافيا وقسّمتها، فتأسست دولة كرواتيا المستقلة دولةً تابعة للنازية، كما​​ احتلت القوات الألمانية البوسنة والهرسك بالإضافة إلى جزءٍ من صربيا وسلوفينيا، بينما احتلت بلغاريا والمجر وإيطاليا أجزاء أخرى من البلاد.

وبعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ومقاومة محلية ضد دول المحور، تأسّست جمهورية يوغوسلافيا الاشتراكية الاتحادية على هيئة اتحادٍ متكوّن من 6 جمهوريات مختلفة عرقياً وتاريخياً هي: صربيا، وكرواتيا، وسلوفينيا، والبوسنة والهرسك، والجبل الأسود وجمهورية مقدونيا تحت قيادة جوزيف بروز تيتو، الذي كان مصمماً على قيادة دولة شيوعية مستقلة.

ولعل أبرز هذه المجموعات العرقية هم البوسنيون، فهم مسلمون ولكنّهم في محيطٍ مسيحيّ مختلف عنهم عرقياً وهويةً وكذلك تاريخياً وسياسياً.

بقي تيتو رئيساً للاتحاد اليوغوسلافي حتى مماته عام 1980، لتبدأ نهاية الاتحاد باستقلال الجمهوريات تدريجياً وتصاعد حدة التوترات العرقية في الأقاليم، والتي كان للصرب اليد العليا فيها.

في عام 1991، أعلنت كل من كرواتيا وسلوفينيا وجمهورية مقدونيا استقلالها، ما أدى لاندلاع الحرب بين الجيش الاتحادي (الصربي) وهذه الدول بهدف إعادة الجمهوريات المنفصلة.

ثم أعلنت البوسنة والهرسك استقلالها عام 1992، مما أدخلها في حرب أهلية أيضاً مع الصرب، والصرب البوسنيين، والكروات والكروات البوسنيين.

البوسنة تاريخياً دولة متعددة الأعراق، ووفقاً لتعداد عام 1991 اعتبر 44% من السكان أنفسهم مسلمين (بوسنيين) و 32.5% صرباً و 17% كرواتيين و6% يصفون أنفسهم بأنهم يوغوسلافيون.

أيدت صربيا مواقف صرب البوسنة الرافضة للاستقلال باعتبار أن المسلمين هم في الأصل من الصرب، واعتنقوا الإسلام فقط خلال الحكم العثماني، وهذا الانتماء الديني المخالف لعقيدة صربيا (الأرثوذكسية) لا يستوجب إعطاء المسلمين الحكم الذاتي، ومن هنا بدأت الكارثة الإنسانية بإعلان صربيا الحرب ضدّ البوسنيين المسلمين.

إقليم سنجق
مقبرة المسلمين على تلال سراييفو، البوسنة والهرسك/ Istock

إبادة جماعية ضد المسلمين

وخلال رئاسة سلوبودان ميلوشيفيتش لصربيا في الفترة من عام 1989 إلى عام 1997، شن الجيش الصربي تحت زعامة الطبيب النفسي الأمريكي الجنسية الصربي العرقية رادوفان كاراديتش إبادة جماعية ضد المسلمين في البوسنة.  

استهدفت القوات الصربية المسلمين البوسنيين في حوالي 15 بلدية داخل البوسنة، ولعل الجريمة الأقسى والأشهر ضد المسلمين، كانت حصار مدينة سربرنيتسا شرق البوسنة والهرسك، من العام 1992 حتى 1995، والتي كانت تعد منطقة آمنة تحت رعاية الأمم المتحدة.

في شهر أبريل/نيسان من عام 1993 تدخّلت الأمم المتحدة عبر إعلان منطقة سربرنيتسا منطقة آمنة تابعة لها، وأرسلت قوات دولية.

طلبت الأمم المتحدة من المتطوعين البوسنيين تسليم سلاحهم، وبعدما انصاعوا لها توقفت الهجمات الصربية، لكنّ الحصار ظلّ مطبقاً عليهم تحت تعليمات رادوفان كراديتش زعيم صرب البوسنة، لتجويع السكان والضغط على المقاومين البوسنيين للخروج من المدينة.

على مرأى من العالم وقوات حفظ السلام الهولندية، دخل ملاديتش إلى منطقة سربرنيتسا مع كاميرات الإعلام يطمئن المدنيين البوسنيين، وما إن خرجت وسائل الإعلام حتّى بدأت الخطة الصربية لإبادة البوسنيين المسلمين.

دخل الصرب إلى المدينة في 11 يوليو/تموز 1995، فقتلوا على مدى 11 يوماً أكثر من 8000 رجل وشاب وصبي في مذبحة لم تفرق بين الكبير والصغير، بينما بقي ألف شخص في عداد المفقودين حتى اليوم، حسب تقرير لوكالة أسوشييتد برس.

وبينما تحدثت تقارير عن اغتصاب جماعي للنساء، تعرض العديد من الضحايا لكمين على طول طرق الغابات أثناء فرارهم من وسط حرارة شديدة دون طعام أو ماء؛ فإما أطلقت عليهم النيران، أو نقلوا إلى مراكز جماعية حيث تم إعدامهم وإلقائهم في مقابر جماعية.

لم تحرك قوات حفظ السلام الهولنديّة ساكناً، بل عندما التجأ الآلاف إلى قاعدة الأمم المتحدة ليحتموا بها، سلّمهم الجنود الهولنديون للقوات الصربية.

واحتجاجاً على العدوان الصربي ضد المسلمين، قررت القيادة السياسية لمسلمي سنجق (وهو البوشناق في صربيا) الانسحاب من برلماني صربيا والجبل الأسود، فاعتقل الصرب الزعامات السياسية إلى جانب 47 قيادياً من مختلف التخصصات الأكاديمية.

وفي العام 1999 أثناء قصف الناتو لأهداف داخل صربيا سعت السلطات الصربية للتخلص من المسلمين في إقليم سنجق، فنشرت الرعب بينهم وأحاطت الدبابات والمدافع الصربية بمدينة نوفي بازار وحوصر المسلمون أرضاً وجواً.

هاجر الآلاف من أهل إقليم سنجق إلى البوسنة والهرسك وغيرها ليتحقق المخطط الصربي بتفريغ إقليم سنجق من أهله البوشناق المسلمين.

وفي العام 2011، ألقي القبض على رادوفان كراديتش في العاصمة الصربية بلغراد وتمت محاكمته أمام المحكمة الجنائية الدولية. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2017، أدين راتكو ملاديتش بـ10 تهم، من ضمنها الإبادة الجماعية وحكم عليه بالسجن المؤبد.

وفي العام 2012، نشر مركز البحوث والتوثيق في سراييفو تقريره النهائي حول وفيات الحرب البوسنية.

كان المجموع 101.040 قتيلاً أو مختفياً، منهم 61.4% من البوشناق، و24.7% من الصرب، و8.3% من الكروات.

حال المسلمين في إقليم سنجق اليوم

بعد كل المعاناة التي عاشها المسلمون من إبادات جماعية وتهجير، يقدر عدد المسلمين في صربيا اليوم بنحو 240 ألف نسمة أو 3.5% من عدد السكان الإجمالي، منهم 20 ألف مسلم في العاصمة الصربية بلغراد.

تعيش الغالبية العظمى منهم (البوشناق) والذين يقدر عددهم بنحو 145 ألفاً، في إقليم سنجق (Sandžak) المعروف باسم راشكا للصرب.

ويعد الإقليم من أفقر مناطق صربيا، إذ يفتقر للبنى التحتية مثل المطار أو محطات القطار، إلى جانب شبكة طرق سيئة تحيط بها الجبال.

كما يبلغ معدل الفقر 50% وفقاً لمعهد الإحصاء الصربي، ما يجعله الإقليم أكثر المناطق حرماناً في منطقة البلقان، بعدما كان مقصداً لصناعة المنسوجات.

وكان مفتي السنجق الراحل والذي مثل مدينة نوفي بازار برلمانياً، معمر زوكورليك، قال في السابق إن غالبية المسلمين في العالم لا يدركون الأهمية الاستراتيجية لإقليم سنجق، والتي تتمثل في كونه الجسر الوحيد الذي يربط البوسنة مع الشرق الإسلامي مروراً بكوسوفو ومقدونيا وتركيا وبقية الدول المسلمة.

وحذر قبل وفاته في نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2021 من أن الظروف الاقتصادية الخانقة وضعف البنية التحتية تولد مستوى منخفضاً من السلوك المتطرف وتهدد بالتوتر.

تطهير ديموغرافية مستمرة

على مدى عقود، خلق العنف الممنهج ضد المسلمين في إقليم سنجق والبلقان عداوة تاريخية بسبب عدم حل القضايا العالقة كعدم اعتراف دولة صربيا بالمجازر التي ارتكبتها وعدم محاسبة مجرمي الحرب ضد البوشناق الصرب.

ورغم أن دستور صربيا لعام 1990 ينص على حرية الأديان في مادته الـ41، إلا أن رفض الدولة منح تراخيص لبناء مساجد وتحقيق بعض مطالب أبناء هذا الإقليم يعيد لسكانه ذكريات التطهير العرقي.

يحاول سكان إقليم سنجق نيل حقوقهم، واسترداد كيانهم الإسلامي، وحقوقهم السياسية والثقافية وأراضيهم التي سلبها الصرب، والبعض يطالبون بالحكم الذاتي.

وبينما يعيش أكثر من مليوني بوشناقي في تركيا، ينتشر نحو مليون شخص في الشتات، بما في ذلك النمسا وألمانيا وتركيا وأستراليا والسويد وكندا والولايات المتحدة.

وحالياً، توجد عدة هيئات إسلامية في الإقليم هي: الحزب الإسلامي ويرأسه الدكتور سليمان أوغليانين، وجمعية الشباب المسلمين، ويرأسها عمروفيتش، وجمعية النهضة الثقافية الإسلامية، ويرأسها تنديرفيتش، وجمعية "مرحمت" الخيرية الإسلامية ويرأسها قوزيه موريتش.

وتركز الجهود السياسية المحلية في إقليم سنجق على منع التهجير في ظل البطالة، بعد أن تحول لنزيف أنهك الكثافة السكانية للمسلمين مهدداً بإفراغ الإقليم من أبنائه من جديد.

تحميل المزيد