كان فتحها مهماً لمنع تحالف أوروبي ضد الدولة العثمانية.. قصة فتح صربيا والبوسنة على يد محمد الفاتح

كان البوسنيون ينتمون لمذهب مسيحي مضطهد، وهو مذهب أقرب لتعاليم الإسلام. فلما جاء العثمانيون اعتنقوا الإسلام بسلاسة

عربي بوست
تم النشر: 2021/06/12 الساعة 13:03 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/06/15 الساعة 07:49 بتوقيت غرينتش
البوسنة /IStock

فتح السلطان محمد الفاتح القسطنطينية عام 1453 وعمره لا يزيد عن 23 عاماً، وكانت سياسته قبل فتح القسطنطينية تعتمد على توثيق علاقاته مع بعض ملوك دول أوروبا، وبالأخص دول البلقان المُحيطة بالقسطنطينية، التي من بينها صربيا والبوسنة والهرسك. وبعد الفتح عاد السلطان الشاب إلى عاصمته أدرنة، وبدأ يَعُدّ العدة لاستكمال فتوحاته في بلاد البلقان (جنوب شرق أوروبا)، التي كان يخشى أن تكون مصدر تهديد له بعد فتوحاته، فكان أول هدف له هو فتح صربيا والبوسنة.

كانت صربيا دولة مسيحية أرثوذكسية صغيرة نسبياً بين دولتين كبيرتين: الدولة العثمانية من ناحية الشرق والدولة المجرية الكاثوليكية من ناحية الغرب، وكانت أجزاءٌ من صربيا في ذلك الوقت تحت السيطرة العثمانية، وكانت الأجزاء الأخرى تحت السيطرة المجرية.

كان ملك صربيا جورج برانكوفيتش يميل حسب مصلحته لإحدى الدولتين في مواجهة الأخرى، وبالرغم من أنّ برانكوفيتش كان يدفع الجزية للعثمانيين في فترةٍ من الفترات، فإنّ ولاءه لم يكن لهم بأيّ حال، بل كان يتحيّن الفرصة ليخرج من تحت سيطرتهم.

محمد الفاتح
لوحة عن محمد الفاتح/IStock

تكوين الحلف المسيحي.. وفتح صربيا

ويسرد لنا الدكتور محمد سالم الرشيدي في كتابه "السلطان محمد الفاتح" قصة فتح صربيا. إذ سرعان ما قبل برانكوفيتش الاشتراك في "الحلف النصرانيّ" الذي كان البابا كاليكست الثالث يدعو إليه؛ لشنّ حملةٍ ضِدَّ العثمانيين، وعلم السلطان محمد الفاتح بذلك فبادر إلى غزو صربيا حتى لا تتخذها القوات المتحالفة مركزاً أساسياً للهجوم على أراضي الدولة العثمانية في البلقان.

وفي عام 1455م، أي بعد فتح القسطنطينية بسنتين فقط، زحف السلطان محمد الفاتح إلى صربيا وحاصر مدينة نوفوبردا، التي تعدُّ أغنى مدينة في صربيا، والتي كانت تسمى "أم المدن"، وبعد أسبوعٍ واحد من الحصار استسلمت المدينة وأخضعها الفاتح إلى جانب عدة قلاعٍ أخرى بالقرب من المدينة، ثم عاد إلى إسطنبول.

بفتح مدينة نوفوبردا لم يبقَ أمام الفاتح من مدن صربيا غير العاصمة بلغراد وبعض المناطق الصغيرة الأخرى.

كانت بلغراد ذات أهمية بالغة للدولة العثمانية، سقوطها يعني سقوط صربيا، والتي هي بوابة إمبراطورية المجر.

أما على الجهة الأخرى فقد كان البابا كاليكست الثالث يدق النواقيس يومياً فيما سماه "ناقوس الأتراك"، ودعا الأوروبيين المسيحيين لقتال العثمانيين، واختار يوحنا هونياد ملك المجر ليتولى قيادة الحملة، يعاونه الراهب جان أنجيلو وكثيرٌ من رجال الدين. وتكون على إثر ذلك حلفٌ يشترك فيه كل من ملك المجر وملك أرجونة وعدد من أمراء إيطاليا وألمانيا وبولندا، بجانب البنادقة ومجموعات أخرى انضمت إلى هذا الحلف الأوروبي، ولم ينتظر الفاتح حتى يداهمه الأوربيون، فسار إلى بلغراد في 150 ألف مقاتل.

حصار بلغراد والخطة المحكمة 

حاصر الفاتح بلغراد من البر ومن نهر الدانوب، بعد أن أمَّن جميع الطرق التي قد تطعنه من الخلف. وخرج هو على رأس جيشه البري الكبير.

في المقابل نزل هونياد بأسطوله في نهر الدانوب، وساعدته الرياح على قوة الاندفاع والانقضاض على السفن العثمانية الراسية في مكانها، والتي تمزقت بفعل التصادم، فغرق بعضها وفشل البعض الآخر عن السير فجرفها تيار النهر، فأمر الفاتح بحرق باقي السفن كي لا تقع غنيمةً في يد الأعداء.

في ذلك الوقت نجح جنود هونياد بالنزول في بلغراد، وكثَّف الفاتح حصاره البري وقد أحدث الجيش العثماني ثغراتٍ في السور عن طريق المدافع.

في صباح يوم 21 يوليو/تموز 1456م، أمر الفاتح بالهجوم على المدينة، ما أدَّى إلى اضطراب هونياد الشديد، الذي لاذ بالفرار، إلّا أنّ راهباً يدعى كابسترانو ظل يحمس الجنود، في الوقت الذي كانت إمدادات الحلف الأوروبي قد وصلت، ما أجبر العثمانيين على التراجع.

نظَّم الفاتح جيشه وعاود الهجوم في 6 أغسطس/آب، وتقابل الجيشان، وظلت المعركة وقتاً طويلاً لا تميل كفة النصر فيها إلى أيِّ من الجيشين، إلا أنّ المزيد من إمدادات الحلف الأوروبي كانت قد وصلت وأحاطت بالعثمانيين الذين كانوا داخل المدينة وشددت عليهم الخناق. 

إصابة الفاتح وانسحاب الجيش

بينما كان الفاتح كالعادة يقاتل بنفسه عند أسوار المدينة أُصيب بجرحٍ بالغ في فخذه، وسقط من على ظهر جواده مغشياً عليه فتحمّس المسيحيون واندفعوا نحوه، إلا أن العثمانيين اتجهوا بكثرةٍ وصدوهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً، حتى جاءت جماعة من القوات الانكشارية الأشداء فشتَّتَوا الهجوم وحملوا السلطان إلى معسكره.

حينما أفاق السلطان غضب غضباً شديداً بسبب الاضطراب الشديد الذي حدث للجيش، إلا أن النصارى كانوا قد أغاروا على العثمانيين بقوة، ما أدى إلى انسحاب الجيش العثماني، خاصة بعد مقتل قائد الانكشارية في الهجوم الأخير عليهم. 

الدولة العثمانية
تمثال للسلطان محمد الفاتح في إسطنبول/ IStock

قرر السلطان أن يعود إلى أدرنة مع ما تبقَّى من جيشه وعتاده قائلاً "إن بلغراد ستسقط في أيدينا عاجلاً أو آجلاً، وإذا لم استولِ عليها أنا فإن أبنائي الشجعان سيستولون عليها". وقد تحقّقت نبوءته على يد أحد أحفاده فعلاً، وهو سليمان القانوني، الذي فتح بلغراد عام 1521. للقراءة ببعض التفصيل عن قصة فتح بلغراد، من (هنا).

فرح الحلف الأوروبي بنصرهم، وبشروا البابا به فأُقيمت الاحتفالات، ولمع نجم هونياد مرة أُخرى، إلا أنه لم يعش كثيراً بعد المعركة بسبب جرحٍ أصابه، فمات في 11 أغسطس/آب 1456.

وقد حزن السلطان محمد الفاتح لموت هونياد، إذ حُرِم منازلته في المعركة مرةً أخرى. وقد كان معجباً به لشجاعته ودهائه وإن كان من أعدائه، وبالرغم من انتصار المسيحيين في بلغراد فقد ظل جزءٌ كبيرٌ من صربيا تحت السيطرة العثمانية.

انشغل السلطان بعد عودته ببعض الشؤون الداخلية في الدولة العثمانية، فأرسل وزيره محمود باشا على جيش إلى الصرب، ففتح عدة قلاع. وفي ذلك التوقيت مات جورج برانكوفيتش ملك الصرب، في 24 ديسمبر/كانون الأول عام 1457، وجاءت من بعده زوجته إيرين التي أرادت حكم البلاد، إلا أنّ أبناءها تصارعوا، وكان أصغرهم هو الأكثر طموحاً للحكم واسمه لازار.

سمَّمَ لازار والدته، ونفى أخويه خارج البلاد، وعرض لازار على الفاتح أن يدفع له الجزية، إلا أنه مات بعد شهرين من سيطرته على العرش.  ومع أن هيلين زوجة لازار كانت أرثوذوكسية مثل باقي الصرب، إلا أنها أرادت -في خطوةٍ سياسية- توحيد الكنيسة الشرقية والغربية، ما أدى إلى هياج أهل صربيا.

وفي خضم تلك الأحداث تفاجأت هيلين بالسلطان محمد الفاتح تحت أسوار سمندرة، فلم تجد أمامها سوى التسليم، فأذن لها السلطان أن تخرج بأموالها، وخضعت بعد ذلك باقي القلاع للعثمانيين ما عدا بلغراد، وأصبحت صربيا منذ ذلك الحين ولاية عثمانية، وذلك في عام 1459.

فتح البوسنة وخيانة البابا لملكها

كانت البوسنة في ذلك الوقت تعيش فترة من الاضطرابات، إذ كَثُرَ المتنافسون الطامعون في الحكم، وزادت الصراعات بينهم، في حين أصبح العثمانيون بعد استسلام صربيا يجاورون البوسنة، التي كان يسعى ملكها استفان توماسيفيتش إلى تقليب الدول المسيحية على الدولة العثمانية.

عزم الفاتح على فتح البوسنة وضمّها للدولة العثمانية بعدما فتح صربيا، وكان ذلك في عام 1462، أي بعد فتح صربيا بثلاث سنواتٍ فقط.

البوسنة
سراييفو، عاصمة البوسنة /IStock

أرسل الفاتح إلى ملكها رسولاً يطلب منه "الخضوع للدولة العثمانية ودفع الجزية لها، وإلا فالقتال"؛ فرفض الملك دفع الجزية. تأهّب السلطان محمد الفاتح للزحف إلى البوسنة، إلا أن أحداثاً داخلية أخّرت السلطان، فتأجل الزحف للعام التالي. 

أرسل توماسيفيتش ملك البوسنة للبابا "بي الثاني" رسالةً ينبهه فيها ويحذره من الخطر العثماني ويستعجله في إرسال النجدة، ورجاه أن يستحث ملك المجر على معاونته، وإلا تكرَّرت مأساة القسطنطينية مرةً أخرى.

كما حذره من أنّ العثمانيين إذا ضمُّوا البوسنة فسيقضون بعد ذلك على إيطاليا وروما نفسها، فأرسل إليه البابا تاجاً، وأقام توماسيفيتش حفلاً كبير، معلناً أنه سيدكُّ العثمانيين،  ولكن لم ينل توماسيفيتش شيئاً من البابا من الجنود أو المال أو السلاح!

وفي 1463 بعث الفاتح رسولاً آخر إلى ملك البوسنة يخيّره بين الجزية أو القتال، فاعتقل توماسيفيتش الرسول وهم بقتله، إلا أن وزيره نهاه عن ذلك فلم يقتله. 

حينما عاد الرسول إلى السلطان سار الفاتح على الفور بجيشه إلى البوسنة، وحاصر قلعة لوفجة أكبر قلاع البوسنة فاستسلمت بعد ثلاثة أيامٍ فقط، ثم حاصر القلعة التي كان بها الملك شخصياً فاستسلمت بعد مقاومةٍ يسيرة، وفر الملك إلى قلعة أخرى، فأرسل الفاتح وراءه وزيره محمود باشا بجيشٍ لمطاردته. 

كان من رأى الفاتح أن يدوم حصار القلعة حتى يستولي عليها محمود باشا بالقوّة، وبالتالي يكون مصير من بها الأسر أو القتل، لكن بعد حصار القلعة أرسل محمود باشا إلى ملك البوسنة يحثُّه على التسليم، فأسرع الملك إليه مستجيباً، وخرج من القلعة، وسلمها لمحمود باشا وتلقَّى منه كتاب الأمان، فاستاء السلطان من تصرف وزيره وعاتبه بعد ذلك. 

تتابعت بعد ذلك قلاع البوسنة في الاستسلام للعثمانيين، وبحلول شهر يونيو/حزيران من عام 1463، أضحت البوسنة كلها ولايةً عثمانية. ورغم كراهية الفاتح لعهد الأمان الذي منحه محمود باشا إلى توماسيفيتش فإنه أقرّه عليه، وتعامل معه بسماحة. لكنّ ملك البوسنة تحرّك بعد ذلك تحركاً عدّه الفاتح خيانة فاستفتى العلماء وقتله.

وقد عامل الفاتح منذ فتح البوسنة أهلها بسماحةٍ عالية، وتودَّد إلى الطبقات الفقيرة منهم وعمل على دعمهم اقتصادياً. 

"البوجوميل".. مذهب أهل البوسنة قبل الإسلام 

من الجدير بالذكر أن أهل البوسنة كان الكثير منهم على مذهب مسيحي خاص يسمى "البوجوميل"، وهي طائفة دينية ازدهرت في البلقان بين القرنين العاشر والخامس عشر، وتأسَّست على يد الكاهن بوجميل، وسعت لإصلاح الكنيسة الأرثوذكسية في البلقان، وقامت عقيدتهم على إنكار المعمودية، والإفخارستيا التي يعترفون فيها للقساوسة بآثامهم والعديد من العقائد المسيحية الأرثوذكسية، كما رفضوا كل تنظيم الكنيسة الأرثوذكسية.

وهكذا كان أهل البوسنة يتعرضون منذ القرن الثالث عشر لاضطهاد الكاثوليك الرومان، وزاد الاضطهاد في القرن الخامس عشر حتى لم يعد أهل البوسنة قادرين على تحمُّل هذا الاضطهاد. وفرّ الكثير منهم إلى البلاد المجاورة، ولكنّ هذا الاضطهاد زاد تمسكهم بعقيدتهم كما زادهم كراهيةً للكاثوليك، وتطلعوا إلى من ينقذهم. 

كان البوجميل يرون أن عمامة المفتي أفضل من قبعة الكاردينال، فرحَّبوا بالعثمانيين عند قدومهم ورحبوا بجيش الفاتح، ومنذ ذلك الحين لم نسمع عن البوجوميل إلا قليلاً.

ويذكر السير توماس أرنولد عنهم في كتابه "الدعوة إلى الإسلام" أنهم دخلوا في الإسلام بمحض إرادتهم في جموع كبيرة إثر الفتح العثماني، ثم اعتنق البقيَّة الباقية منهم الإسلام تدريجياً. 

وذكر أرنولد أن من الأسباب التي أدت إلى دخول البوجوميل إلى الإسلام التشابه بين عقائد مذهبهم وعقائد الإسلام في نواحٍ كثيرة، مثل تحريم الخمر وعدم عبادة صور القديسين ومريم العذراء، فأحبوا الإسلام وأصبحوا مسلمين.

في السنة التالية من فتح البوسنة اتجه عزم الفاتح لفتح منطقة الهرسك، لما لها من أهميةٍ لاستكمال الرقعة العثمانية في البلقان. وبسبب حصانة قلاعها أيضاً؛ فأرسل الجيش بقيادة محمود باشا، وما إن علم أميرها بالزحف العثماني حتى فرّ إلى إحدى الجزر القريبة، فلما أوشك محمود باشا أن يُتم فتح الهرسك، أرسل أميرها الهارب ابنه بالهدايا والنفائس إلى السلطان محمد الفاتح، ملتمساً منه أن يقيم في عاصمة ملكه السابق، فوافق السلطان.

بناءً على هذا قسَّم الفاتح الهرسك إلى قسمين؛ الأول -وهو الأهم- ضُم إلى الدولة العثمانية تماماً، والقسم الآخر جعله للأمير، أما ابنه الذي أُرسل رسولاً إلى الفاتح، فقد أُعجب بدين الإسلام خاصة بعد أفعال الفاتح التي أُعجب بها.

تزوّج ابن الأمير هذا من ابنة الفاتح، وترقَّى في مناصب الدولة العثمانية حتَّى منصب الوزارة، وحينما مات أمير الهرسك ضُمَّت البقية الباقية من الهرسك إلى الدولة العثمانية، وغدت مركزاً من مراكز الدولة العثمانية، وامتلأت أرجاؤها بالمنشآت الإسلامية كما ذكر سعد الدين أفندي في كتابه "تاج التواريخ".

تحميل المزيد