السيدة التي أحببت اسمي لأجلها.. هكذا تعرفتُ على رضوى عاشور

عربي بوست
تم النشر: 2021/06/17 الساعة 09:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/06/17 الساعة 09:39 بتوقيت غرينتش
الأديبة الراحلة رضوى عاشور وابنها الشاعر تميم البرغوثي

المحظوظون فقط من يجدون شغف قلبهم، وفي الثالثة عشرة من عمرها اكتشفت فتاةٌ شغفَها. الصف الإعدادي الثاني، دروس القراءة، الأستاذ يقرأ والطلاب يرددون: "أشهر أدباء العرب طه حسين، نجيب محفوظ، رضوى عاشور…"، وفي كل مرة تردد الاسم ينبض قلبها بقوة، لم تنكر أنها قد أعجبها تشابه الأسماء بينها وبين سيدة يتردد اسمها في المناهج الدراسية، ولكن الأمر لم ينتهِ هنا وحسب، أثارت فضولها تلك النقاط الثلاث بعد اسم السيدة رضوى عاشور، وذهبت للسيد جوجل كعادة الجيل وكتبت: "رضوى عاشور"، اصطدمت بكم كبير من المقالات والروايات ودار عليها العام وهي شخص آخر، شخص مرت به السيدة راء.

لم تكن مجرد أديبة لها سيرة ذاتية رائعة، كانت حالة، تخيل الحب والحرب والحزن تجتمع معاً، تأخذك معها في عالم لم يغادر الواقع ومع ذلك أشبه منه بالحلم، عالم نحيا فيه حتى إن لم نتواجد في عصره، ولكنك ستشعر بأنك عاصرت هذه الأيام، تذهب لغرناطة فتكون أنت بذاتك كل شخصٍ فيها، تنتقل روحك من بين لسان أبي جعفر، لمريمة، لحسن، فتجد نفسك إن رأيت صورة من الأندلس تشعر كأن كل شبر فيها لمسته بيديك، تكون الزوج المحب والمناضل من أجل الحفاظ على هويته، تخيل أنك رأيت الأندلس؟ تخيل الصراع للحفاظ على الكل شيء، البيت، الحب، العائلة، الوطن، اللغة، حتى اسمك، وابل من الأحداث بين أجيال ثلاثة: الجد، الأب، الأحفاد، وكيف اندثرت الهوية في النهاية تحت ركام الحضارة الأندلسية، الحقيقة أنك بعد هذه الثلاثية الرائعة ستجد نفسك تريد الانتفاض بقوة تجاه شيء ما، هناك شيء ما لم تبذله تريد الذهاب وتفنى فيه، فتصطدم بأنك كنت ضيف من المستقبل فقط، فتجلس وتبحث في صور الأندلس فترى ما رسمته لك مخيلتك من وصف السيدة بالضبط.

ولم تكن الثلاثية فقط التي تسللت فيها السيدة لروحنا، بل إنك من "سراج" مروراً بـ"أطياف" و"أثقل من رضوى" و"الطنطورية" ستجد روحك تقشعر مع كل سطر وستتحرر من نفسك فراغاتٌ لتمتلئ بقضايا، مبادئ، نظرة للعالم من زاوية لا أحد يقف بها إلا السيدة رضوى عاشور.

حينما تريد التعرف على السيدة فإنك لن تمل من الحكايات، حكيها وحكاياتها، قصتها مع الراحل مريد البرغوثي، تلك العلاقة بين الصداقة والحب والزواج والمعاناة والكثير من الفراق، فقد تكبد السيد مريد عناء فراق رفيقة روحه مرتين مرة حينما أُبعد عنها وعن تميم البرغوثي، ومرة أخرى حينما رحلت رضوى عن العالم، كانت علاقة استثنائية لا تدري إن كنت تشعر بالفخر أم بالسعادة حينما تسمع بها، ولكنك لن تمل أبداً صوت مريد وهو يقول في رضوى:

أنتِ مشتهاة كتوقف الغارة

وأنا مخلوع القلب كالباحث بين الأنقاض

أو مثلاً حينما يقول:

حين ذهبت

حقل من عباد الشمس تلفت نحوك

وتخلى عن وجه الشمس

وعانت السيدة أيضاً من فراق مريد لمدة 17 عاماً حينما تم تهجيره هو وفلسطينيين آخرين قبل زيارة السادات للقدس، تخيل تقضي كل هذه المدة وأنت تقول لرفيقك: 

"وأنا أقرأ لك أتخيلك وأنت تكتب، أرى وجهك، جلستك، حركة يديك، مكتبك، فأشتاق أكثر…".

وها هو مريد يلحق ببيته بعد 7 أعوام من البحث عن رضوى، أظنهما الآن معاً، ينظران لنا ولتميم من هناك ويبتسمان فينظر مريد لضحكتها ويقول: "عادت ضحكتها عادت".

العجيب في أمر السيدة راء أنها لا تكتب وتمر هكذا، إنها تنشئنا، تصنع الدائرة التي ستضم العالم لترشده، فكل قارئ لها هو بمثابة ابن، جندي خاض معها معركة من معاركها، شهد صراعاتها كلها، جاورها في الملاحم، احتمى بثوبها في كل مشاهد الألم، فيكبر الابن ويصبح نفسه، يعرف هويته، يعرف واجباته تجاه نفسه وبيته وبلده وعالمه ويعرف حقوقه وحريته ولا يهدأ إلا بنيلهما كما تعلم من الأم، وفي كل مواقف الحق يجد يد السيدة راء تمتد من وراء الأطياف لتدله إلى الطريق، حتى إن كان جناحه مكسور.

اليوم نكتب ونكتب وما نكتبه قد يتمحور حول قضايا عدة، ألفاظنا تتغير، تعبيراتنا تتغير، حتى إن آراءنا نفسها تتغير، ولكن في أعمال السيدة رضوى عاشور كلها ستجدها تربي فيك الإنسان الذي داخلك، تجتذبه من وسط الشتات والتيه وتضع قدميه على أرض صلبة وتجذب كرسياً وتجلس لتقص عليك حكايات السيدة راء.

وتكبر كل الفتيات اللواتي قرأن عن السيدة راء في كتاب القراءة، ومن حين لآخر تنظر كل منهن من حيث وصل بها العالم لرفٍّ يحوي كتب أديبتها الأولى، فتتذكر سطراً يلمس شيئاً زرعته السيدة في روحها، وفي كل مرة تصطدم بوجهها قضية تستوجب الكفاح تجد الكلمات في كل مرة يتصارعن في عقلها، حتى تسطر إحداهن مثل ما قصت عليها السيدة، وترسم إحداهن شيئاً كيفما رأت بعين أديبتها، ويعلو صوت أخرى كما سمعتها تندد، فتعاني رضوى عاشور مع السرطان وترحل عن العالم، ولكن تبقى بعدها الكثيرات ممن يحملن عبق كلماتها بين حنايا صدورهن، سيبقى الأبناء دائماً.

ومع رحيل رضوى، ورحيل مريد، تركا لنا من صوتيهما وبسمتيهما صوتاً جهورياً يخرج علينا فيقص حكايات عن رضوى ومريد، يروي ظمأ قلوبنا للقدس فيقول:

في القدس، توراةٌ وكهلٌ جاءَ من مَنْهاتِنَ العُليا يُفَقَّهُ فتيةَ البُولُونِ في أحكامها

في القدسِ شرطيٌ من الأحباشِ يُغْلِقُ شَارِعاً في السوقِ..

رشَّاشٌ على مستوطنٍ لم يبلغِ العشرينَ،

قُبَّعة تُحَيِّي حائطَ المبكَى وسياحٌ من الإفرنجِ شُقْرٌ لا يَرَوْنَ القدسَ إطلاقاً

تَراهُم يأخذونَ لبعضهم صُوَرَاً مَعَ امْرَأَةٍ تبيعُ الفِجْلَ في الساحاتِ طُولَ اليَومْ

في القدسِ دَبَّ الجندُ مُنْتَعِلِينَ فوقَ الغَيمْ

في القدسِ صَلَّينا على الأَسْفَلْتْ

في القدسِ مَن في القدسِ إلا أنْتْ!

تركوا لنا تميماً، نقوى به ويقوى بنا، ينصرنا في انتفاضتنا الثالثة ويثبت عزيمتنا وبه نرى مقاومة مريد وبه نسمع صوت السيدة راء تقول:

تركتكم لا لتبكوا، بل لتنتصروا

وقريباً سننتصر.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

رضوى موسى
كاتبة مصرية
تحميل المزيد