سرديات المهمشين.. من سيحكي حكايتنا؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/05/04 الساعة 09:02 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/05/04 الساعة 09:02 بتوقيت غرينتش
سرديات المهمشين.. من سيحكي حكايتنا/ISTOCK

عن السردية والدولة:

لكل منا قصة تمثل رؤيته عن أحداث قد مرت، تمثل السردية هنا محاولة الربط بين هذه الأحداث لإكسابها معنى، وللفرد سردية كما للمجموعة والدولة.

تتصاعد سردية الدولة المتسمة بقدر عالٍ من التماسك محاولةً نفي مشروعية باقي السرديات، تستند سردية الدولة للقوة، القوة الصلبة ويدعمها المال والإعلام، رأينا في مسلسل الاختيار سردية الدولة على سبيل المثال، سردية بسيطة وقصيرة وإن اتسمت بفقر في الخيال، وهي أن البلد كان في فوضى والحمد لله استعدنا الأمن والاستقرار.

ليس من الصعب نقد مفهوم الأمن الشخصي الضيق أو الاستقرار الشكلي أو حتى تكلفتهما، لكن العبرة هي بتبني الناس لها، فحتى النازيون امتلكوا سرديتهم المشوهة والعنصرية، واستخدموا الدعاية لنشرها وتثبيتها، والشرطة لقمع مخالفيها.

وفي رواية 1984 لا يجرؤ أحد على مساءلة سردية الأخ الأكبر، وهنا تنبع أهمية السردية ليس فقط كوسيلة لشرعنة الواقع القائم بل أيضاً لكونها تمثل سلطة النظام على الحاضر، فكما يقول أورويل: "من يتحكم في الماضي يتحكم في المستقبل، ومن يتحكم في الحاضر يتحكم في الماضي".

تتسم سردية الدولة بالواحدية والإقصاء، فهي لا تقبل أي سرديات أخرى بديلة بل تقمعها، فالأم الثكلى على ابنها في المعتقل إن تبرمت وحاولت أن تظهر تكلفة الاستقرار الشكلي القائم على رمي أبنائها في غياهب السجون وتعذيبهم سيكون مكانها السجن.

لن تتسامح الدولة مع من يشكك في سرديتها، اليوم خير من الأمس، نمشي إلى الأمام، "يناير" جعلت الدولة تضطرب وتدخل حالة من الضعف، الثورة ليست حلاً، وأي حل خارج الدولة وأدواتها ومؤسساتها مرفوض.

لا يوجد رأس يدبر لنسج هذه السردية، فبيروقراطية الدولة وأجهزتها صدعوا رؤوسنا بهذا الكلام منذ اليوم الأول للثورة، ولكن لم يعبأ لهم أحد، ولكن ما أن انتصرت البيروقراطية وفي مقدمتها المؤسسة العسكرية وبجوارهما الأزهر والكنيسة حتى امتلكت هذه السردية قوة تعمل على إكسابها حيوية بل وشرعية.

سرديات المقهورين:

ولكن من لسردية المهزومين، وهل هي سردية واحدة، أم تتعدد؟ وهل ستنتصر يوماً ما؟ أو بسؤال أكثر تشاؤمية هل ستحيا سردية المهزومين؟

سرديات المقهورين ليست بالضرورة سياسية، فهي اجتماعية واقتصادية وثقافية أيضاً، وبالتالي ليست المعارضة السياسية ولا فصائل بعينها هي المسؤولة عن السرد، بل هي مهمة الجميع، إنها مهمتي ومهمتك، ولا أقول هنا التوثيق و"احكِ ولو على الفيسبوك"، إنها ليست مسألة أخبار نكتبها وتفاصيل نغرق بداخلها، بل هي ربط ما عشناه ومررنا به، والإجابة عن سؤال لماذا وما منطق هذه الأحداث، أجب في سطر أو أقل وكلما صغرت جملتك كانت سرديتك أقوى، ولكن لا تجعلها مرسلة، اجعلها ملامسة لواقع الناس وإن تسامت عنه.

للفقراء سرديتهم، وللعمال أخرى، وللشباب والمعتقلين وغيرهم الكثير آلاف الرؤى والسرديات، سرديات الضحايا والمقهورين تتسم بالتعددية لا بالتسامح، فالتسامح يتطلب يداً عليا تقرر أن تسامح، ولكن المقهورين سواسية.

من الممكن اعتبارها سردية واحدة لكن مركبة شديدة التعقيد، وبالتالي لن تحظى بالإجماع، على عكس تلك الخاصة بالدولة، فكل سرديات المقهورين تتداخل، مشكلة سردية تأمل التحرر، وأي محاولة لفرض سردية واحدة للمقهورين تناقض نفسها، وبالتالي أي محاولة لتحزيب سردية الثورة فاشلة من بدايتها، فإذاً محاولة هيمنة سردية واحدة هي بذرة لاستبداد مستقبلي، على سبيل المثال حينما هيمن البلاشفة على الثورة الروسية قمعوا أصدقاءهم المقهورين.

من سيسرد قصتنا نحن المهزومين؟

تموت الضحية ويضحك المستبد، ولكن إلى متى؟

لنكن كما قال غرامشي متشائمي العقل، متفائلي الإرادة، لنرى الواقع كما هو دون أن تشوهه آمالنا، ولكن مع إرادة تدفعنا للمواصلة، فالواقع والتاريخ كلاهمها يرسخ أن المستقبل ليس وردياً، فكم من مظلوم مات ولم يقتص، وكم من شهيد لم يأت حقه في هذه الدنيا، فمن ثأر للحسين ولابن الزبير؟ ولكن عزاءنا أنهما بإذن الله في الجنة ينعمان، ولكن ما يواسي القلب هي فكرة انتصار سردياتهما، فسردية صلاحهما وبطولتهما حية إلى يومنا هذا رغم محاولات الطمس، وفي سرديات الثورة وكلمة الحق يُستحضر الحسين إلى يومنا هذا.

ولكن لا يعني هذا أن كل المظلومين أنصفَهم التاريخ فيما بعد، فكثير من الثورات دونت كمحاولة للفتنة والخروج على الحاكم، فالتاريخ الذي نقرأه نتاج عملية تأريخ سياسية للدولة بقدر أكبر من المجتمع، وإن تم التأريخ للأشخاص فسيكون أمثال الرشيد والفاتح وبونابرت لا أمثال جنودهم ولا من عاشوا تحت سلطانهم.

تظل محاولات التأريخ الاجتماعي أصعب مهمة في هذا السياق من الجانب العلمي، فهي تمثل مقاومة لسردية السلطة الواحدة، فمحمد علي باشا أنجز الكثير، ولكن بأي تكلفة؟ يخبرنا الدكتور خالد فهمي في كتابه "كل رجال الباشا" كيف عانى الجنود في سبيل صناعة الباشا لمجده الشخصي، ويواسينا بقصص عن كيف أنهم قاوموا السلطة وأساليب الضبط المختلفة.

كما أن الجهود البحثية والصحفية عن القطاعات المقهورة في مصر كالسجون وسيناء تساهم بقدر كبير في الحفاظ على سردياتهم من الموت، فجهود إسماعيل الإسكندراني البحثية والصحفية عن سيناء مثال على ذلك، ودفع ثمن ذلك بأن تم سجنه عام 2015 وحتى اليوم.

ومن الجانب الأدبي، فإن الروايات والكتب والأفلام وغيرها من الفنون التي ستبقى واقفةً لتشهد على قصص المقهورين والمهمشين، كهؤلاء الذين في السجن والمنفى، وبتضافر هذه القصص ستحيا السرديات، فكتابا "حرز مكمكم" لأحمد ناجي و"عند الامتحان: مذكرات طالب في السجون المصرية" لسيف الإسلام يشهدان على جانب من قصص السجون، ورواية "على خط جرينتش" لشادي لويس في جانب منها ستشهد على قصص اللاجئين، وفيلم "8 يناير" القصير لعبدالرحمن سمير سيشهد على قصص الشباب في المنفى.

كل هذه القصص تؤرخ لما شهدناه منذ الثورة، كلها تمثل أجزاءً من سرديتنا المركبة.

وختاماً: ستحيا سردياتنا -نحن المهمشين- وستنتصر يوماً ما، إرادتي المتفائلة تخبرني بذلك.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
بلال هشام
طالب سياسة واقتصاد، ومهتم بقضايا الاجتماع والاقتصاد السياسي
تحميل المزيد