الاختيار 2.. تأسيس جمهورية الدم الثانية

عربي بوست
تم النشر: 2021/04/18 الساعة 09:41 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/04/18 الساعة 09:50 بتوقيت غرينتش
أحمد مكي في أحد مشاهد فض رابعة بالحلقة الخامسة من مسلسل "الاختيار 2"/ يوتيوب

في حلقاته الأولى يسير الجزء الثاني من مسلسل الاختيار في نفس الفترة الزمنية للجزء الأول، لكن مكان التغطية مختلف، فالأول كان يحكي عن سيناء، تلك الجغرافيا المجهولة لدى أغلب المصريين، التي تتعرض لقدر هائل من التعتيم الإعلامي، وبالتالي يسهل التلاعب بالأحداث، فكثير من الروايات المضادة عبارة عن حكايات وشهادات والتغطية المرئية ضعيفة، ولكن على النقيض، فالجزء الثاني يتلاعب بأحداث كانت تُبث مباشرة، بالإضافة إلى أن عنصر البطولة والتضحية ينتقل من الجيش ممثلاً في شخصية "المنسي" التي قام بها أمير كرارة، إلى الشرطة بجهاز العمليات الخاصة ممثلة بأحمد مكي، وأمن الدولة بممثليه كريم عبدالعزيز وإياد نصار. وللمفارقة فإن كريم عبدالعزيز في أعمال سابقة له كفيلمي "أبوعلي" و"واحد من الناس" كان يُظهر أحد جوانب الفساد لمنظومة الشرطة.

في هذا المقال سنتناول المسلسل من ناحية فنية، وما تمثله رابعة، وأخيراً الرسائل التي يقدمها.

أفواه تقطر حِكماً.. "لاواقعية" السيناريو

مكي يحاضرنا عن ثقافة الاختلاف الغائبة، وعن أن ثوار التحرير يشبهون ضباط الداخلية، فمنهم الجيد والسيئ، عبر المشاهد المختلفة يظهر مكي وعبدالعزيز وغيرهما في حوارات بسيطة وواضحة، توجه رسائل عن توحد المصريين، بالإضافة إلى تكرار كلمة الاختيار بشكل يوضح تكلف الحوار.

يظهر مكي وعبدالعزيز كشخصيات خفيفة الظل، مع إظهار جانبهم الإنساني والأسري والعاطفي، مضفين حالةً من الدعم والتعاطف المسبق معهما كبطلين للقصة، كما أنهما يظهران كبطلين مستعدين للتضحية والاستشهاد في سبيل الوطن، فمثلاً يظهر مكي في أحد اشتباكات سيناء وهو بطل مغوار يقاتل وينتصر في النهاية، لكن يسقط صديقه شهيداً فيحزن أنه قد سبقه، إذاً لا يعبأ مكي بالموت، فهو المستعد الدائم للتضحية، وهو الشخص الذي لا يريد أن يتزوج حبيبته لأنه قد يموت في أي لحظة، فلا يريد أن يكون أنانياً وييتم أطفاله.

هذه الشخصية الأسطورية تذكّرنا بشخصية رامبو الأمريكية، فكما يقول الأعرج إن شخصية رامبو كانت تمثل "محاولة لإنقاذ الرومانسية الأمريكية القتيلة في حرب فيتنام، لذلك هي أفلام فظة سيئة مبتذلة، حتى إنها صار لزاماً عليها أن تسرق من رومانسيات العدو لتغذي سردياتها، مثل خدع رامبو في فيتنام، التي استعاروها أصلاً من الفيتناميين"[1].

يشبه هذا ما حدث في الحلقة الخامسة من المسلسل، التي تغطي الفض، فبجانب بطولة مكي وعبدالعزيز في الحلقات السابقة يظهر مكي، الضابط الشجاع الذي يطلب الإسعاف حين يرى مصاباً من المعتصمين، ويظهر عبدالعزيز الضابط الذي يستبسل حامياً كنيسة في المنيا، ويتعرّض للإصابة ولا يستسلم، وبالنسبة للسرقة من سردية الضحية فإن الحلقة نفسها احتوت على مشهد ضابط يحمل صديقه المصاب، فيتم قنصه من قبل المعتصمين، ليظهر الشجاعة والأخوة والتضحية، ويثير حالة من التعاطف، وهذا المشهد في الحقيقة هو عبارة عن سرقة صريحة من فيديو لأحد المعتصمين، الذي كان يحمل صديقه المصاب فيتم قنصه من قبل الشرطة.

يفتقد كاتب السيناريو وداعمو النظام للخيال الكافي، فيضطرون للسرقة، فهذا المشهد لا يتحمل أي تبرير، فمن يقتل بهذه الصورة ليس إنساناً عادياً، لكنها تبقى محاولة بائسة لسلب سردية الضحية، فالفيديو موثق، ومن شهدوه في الواقع ما زالوا أحياءً ليحكوه.

أحد صور ضعف السيناريو ولا واقعيته هو الحقد الذي يظهر في أعين ضباط الشرطة، الذين سينشقون لاحقاً منضمين إلى ولاية سيناء، كحنفي جمال، ففي أحد المشاهد يظهر جمال في أحد معسكرات الشرطة وهو يحجر على أصدقائه مشاهدة التلفزيون بما يحويه من أشياء غير لائقة في حوار ركيك، فيعنفه مكي، وينتهي المشهد ومكي يقول لضابط وهما في غرفتهما: "بلطجة إن ربنا يدينا الاختيار وحد يلغيه، مش من حقك تفرض على الناس رأيك".

وبالقدوم لمشاهد الاعتصام فإن الحوارات داخله اتسمت بحالة من السطحية، فتتكرر عبارات كمرسي راجع، والشعب كله في الميدان، وتنميط متكرر للشخصية الملتحية، كما أن الشخصيات كانت إحدى أربعٍ: قيادات إخوانية تخطط، جهاديين يحاولون تجنيد، أناس مغرر بهم، بسطاء من الأقاليم لا يفقهون شيئاً. كما أن تعبير خطط وتشكيلات عسكرية داخل الميدان تكرر كثيراً، وهو ما يظل رواية وبروباغندا النظام التي تفتقر إلى التوثيق.

جمهورية بطعم الدم:

تحتاج الدول في نشأتها لتعزيز هويتها الداخلية، فكانت الجمهورية المصرية قائمة على العداء مع الاحتلال البريطاني وإسرائيل، ولكن يمكن أن تتحول البوصلة ويصير العدو داخلياً. يقول باومان إن الجماعات تحتاج إلى كبش فداء لكي تقوم على إثره وتحدد هويتها "نحن" القتلة و"هم" الضحية، ولعل أبرز تمثّلاتها كان في أغنية "احنا شعب وانتوا شعب"، فكان المعتصمون هم العدو وكبش الفداء، وتمت المجزرة التي تلعب دوراً في تماسك الجماعة الناشئة، مع العمل على منع الضحية من الاندماج في المجتمع، كما أن العنف تجاه هذه الضحايا مأمون العواقب فلا خوف من الثأر، بل إن الضحية تُشيطن وتصور على أنها الجاني، وهو ما يُذكرنا بما قاله السيسي بأن الضابط الذي سيَقتُل لن يُحاسَب.

يضيف باومان أن مثل هذه المجزرة "جريمة القتل الأولى" تمثل الميلاد التاريخي للجماعة، متمثلة في رابعة، ويجب أن تخرج الضحية كما يرى باومان حية من المجزرة، لأن بقاءها حية يبث الخوف، ويعني أن الجماعة في حاجة دائمة إلى الوحدة، وهو ما رأيناه في شماعة الإخوان والإرهاب، ويضيف باومان أن الاشتراك في الدم هو السبيل الوحيد للانضمام للجماعة، "فلا يهم كثيراً عدد القتلى من الأعداء/الضحايا"، بل المهم هو العدد الكبير من القتلة، ومن المهم أيضاً ارتكاب الجريمة في العلن، في وضح النهار، وأمام أعين الجميع، لتظل جماعتك -أي النظام- هي المأوى الوحيد.

ويختتم باومان حديثه عن ميلاد مثل هذه الجماعات بأن الجماعة "لا يمكنها أن تضمن بقاءها زمناً طويلاً إلا إذا حافظت على الجريمة الأولى من النسيان"، فالجناة بعلمهم بوجود أدلة على جريمتهم يجب أن يظلوا متحدين على قلب رجل واحد، "وأفضل طريقة لتحقيق ذلك تتمثل في الإحياء المنتظم، أو المتواصل، لذكرى الجريمة والخوف من العقاب عبر إضافة جرائم جديدة إلى الجرائم القديمة".[2]

ومن هذه المجزرة تولد الجمهورية الثانية كما يسميها السيسي.

ولذا فإن المستهدف من الرسائل الواضحة للمسلسل ليس عموم الشعب، ولكنها جبهة النظام الداخلية من شرطة وإعلام وقضاء، فالجميع شارك في القتل، لتقوم الجمهورية الجديدة على جماجم الضحايا الذين كانوا يمثلون تهديداً لنا، بالإضافة إلى المواطن العادي الذي قد يعجب بالتصوير ومشاهد الأكشن، وبالتالي يكون عرضة في حالة هياجه العاطفي وشعوره بالتهديد لقبول رسائل مثل أن خطر جارك الإخواني أكبر من خطر إسرائيل، وسبيل النجاة هو الالتفاف حول الدولة وقيادتها.

رسالة: تهديد دائم وكبش فداء

يقدم المسلسل رسالة أساسية، وهي أن مصر كانت مهددة ولا تزال، ولكن بقدر أقل، وهنا يتلاعب النظام بالعواطف وينقل المشاهدين من الافتراضي إلى الواقع، وينتج عن هذه الرسالة حالة من الخوف الدائم، الذي لا حل للتخلص منه إلا الوثوق في الدولة والشرطة، وللوصول لحالة الأمن والاستقرار يجب ألا تطرح مطالب كالحرية وتحسين الأوضاع الاقتصادية، فكلها ثانوية في مقابل الأمن الشخصي، ففي الفض تهرب العناصر المسلحة وتنتشر في مصر، وفي كل معركة تخاض في سيناء فإن الإرهابيين لا ينتهون، وإن خسروا المعارك أمام الجيش والشرطة فالجميع إذاً مهدد.

في سبيل ذلك تمت عملية نزع إنسانية الضحية وشيطنتها، ليتم قبول القمع غير المسبوق الذي تتعرض له، فالمعتصم هو المغيب منقطع السياق، لا شيء تعرفه عن أهله وخلفيته لتتعاطف معه، يظهر ليقول عبارات سطحية من قبيل "لنحكم البلد لنحرقها" بوجهٍ عابث، المغيب منقطع السياق، لا تستطيع أن تفهم لماذا يحدث العنف في أنحاء مصر، إلا بعبارات فضفاضة مثل: عشان يفرقونا ويوقعوا البلد على لسان ضباط الشرطة.

ويتجلى نزع الإنسانية مع إشعار الشعب بالتهديد الدائم في مقولة أحد قيادات الداخلية "ديابة وروضناهم في التسعينات، وعايزين نرجعهم الأقفاص".

إحدى الرسائل الصريحة في المسلسل هي أن الكلمة أخطر من السلاح، فيقول عبدالعزيز: "الكلمة ساعات بتبقى أقوى من السلاح، في الآخر اللي ماسك سلاح هيقتل واحد ولا اتنين، إنما اللي بيتكلم ممكن يمسّك ألف واحد سلاح"، بالإضافة إلى أن الإرهابي ليس إرهابي الثمانينات والتسعينات ذا اللحية، ولكنه قد يكون طفلاً عمره 16 عاماً.

ولكن السؤال هنا: هل تم احتواء التهديد على الوجه الأمثل؟ فسياسات النظام عملت على انقسام المجتمع، وعملية القتل غير المسبوق وفرت أرضاً خصبة للعنف المستمر الذي دفع المجتمع والدولة ثمنه غالياً، العملية نجحت، ولكن المريض قد مات، ويذكرنا النظام بهذا الشرخ المجتمعي، وينجح في أن يجعله "ترند"، له تجلياته المجتمعية من انقسام حاد في فترة تحتاج تكاتف الجميع لتخطي أزمة سد النهضة.

الخلاصة:

يعلمنا مكي أن ثقافة الاختلاف قد غابت، وأن من يخالفك فهو عدوك ودمه حلال، وفي الحلقة التي تسبقها يصوب الرصاصة في رأس شخص كان يتتبعه بدل أن يقوم بتعجيزه، فالقتل من الشرطة سهل وبسيط، ولا يخضع لنفس معايير ثقافة الاختلاف الذي يتحفنا بها، فالضابط من حقه أن يقتل المتظاهر والمهرب وغيرهم خارج إطار القانون، ولن يحاسب، وعلى الأكثر سيوبخه رئيسه "متعملش كده تاني، احنا مش في طابونة"، كما حدث في المسلسل، لتخفيف وقع التساهل في القتل.

وفي النهاية سيعمل المسلسل على ترسيخ الانقسام المجتمعي وترسيخ السلطوية القائمة.

وكأنني أسمع ضحايا النظام صارخين: إننا إخوتكم فلا تصدقوه، ولكن بلا جدوى يحاولون، فالانقسام الذي يرعاه النظام سيد الموقف.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] باسل الأعرج، وجدت أجوبتي. ص334.

الرومانسية بالنسبة له هي المثل والقيم والمعنى والسردية والجمال من وجهة نظر مجموعة من الناس.

[2] زيجمونت باومان، الحداثة السائلة. ص270:274

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

بلال هشام
طالب سياسة واقتصاد، ومهتم بقضايا الاجتماع والاقتصاد السياسي
تحميل المزيد