لدي أفكاري الدرامية حول الكتب والقراءة، وأؤمن أن الكُتب تختار الأوقات التي تُريدك أن تقرأها بها، تُناديك.
أنهيتُ للتو قراءة كتاب "الكاتبات والوحدة" لـ"نورا ناجي" في ليلة واحدة. حين فتحته لم أستطع أن أغلقه قبل أن أنهيه، كان في كل فصل جزء مني أو عني، في كل كاتبة هناك خط يتماسّ مع شيء أفهمه بشدة أو أشعر به بقوة. وحين قرأت فصل "عنايات الزيات" عرفتُ عن كتاب الشاعرة "إيمان مرسال" الذي كتبَته في تتبع حياة هذه الأديبة التي تشبه شخصية خيالية من رواية، كتاب "في أثر عنايات الزيات" الصادر في 2019 عن دار الكُتب خان.
وتأثرت كثيراً بقصة نورا ناجي مع الكتاب، حين عرفت عن عنايات وحاولت جمع المعلومات عنها حتى عرفت بكتاب إيمان مرسال، فسافرت من طنطا إلى القاهرة لأحصل على نسخته، وجلست في مقهى وأنهيت نصفه، ثم كان عليَّ اللحاق بالقطار فنسيته، وسيكون عليّ العودة بعد قرابة الأسبوعين كي أحصل على نسخة جديدة، وسأحافظ عليها جيداً هذه المرة خوفاً من أن تُنبت لها أجنحة وتطير.
أردت أن أعرف عن عنايات، وأن ألتقي بها عن كثب، لكنها لم تُرِد ذلك وقتها، أعرف عنها من أكتوبر (تشرين الأول) 2020، وها أنا أنهي كتابها في الخامس والعشرين من أبريل (نيسان) 2021. أين كنت كل هذا الوقت؟ لا أعرف.
فقط أحتفظ بصورة لغلاف الكتاب في ألبوم صور في هاتفي، وكلما كنت بالخارج ولا إنترنت معي أفتح الهاتف وأمرر إصبعي على الصور فأراه، أتأمله وأمرر، وأقول سأقتنيه عما قريب، في هذه الفترة اقتنيت نحو ثلاثين كتاباً، منها 15 كتاباً لنجيب محفوظ فقط، أظن أنه ناداني أولاً، كان جريئاً وشجاعاً كما يعرفه الجميع ولا يخشى شيئاً، لكن عنايات بخجلها الذي منعها الحياة كانت فقط تلوح لي من بعيد.
"حتى أتخلى عن فكرة البيوت" هو آخر ديوان ورقي منشور للشاعرة إيمان مرسال، وبعده نادتها نداهة عنايات التي قرأَتْ اسمها على غلاف مهترئ في نسخة قديمة، وسيلازمها هذا الغلاف لأعوام طويلة بعد ذلك، وكي تتخلص من هذه اللعنة كان عليها اتباع الصوت. كالنائم الذي يبحث عن شيء لا يعرفه ولا يعرف هل يوصله إلى شيء أم لا، وهل هو حقيقة أصلاً أم من صنع خياله، لكنه سيفعل أي شيء كي يتخلص من الأرق.
لم يؤثر هذا الكتاب بي بسبب قصة عنايات فقط، لكنه جعلني أعيد اكتشاف نفسي والتفكير في أشياء تخصني، فكرة الأرشيف الشخصي على سبيل المثال. كانت مأساة حين علمَت إيمان مرسال أن الأرشيف الشخصي لعنايات قد تم التخلص منه بالكامل بالحرق، ولم يتبقَّ منه سوى بضع وُريقات من المذكرات الشخصية، التي لا يتعارض ظهورها في الصحافة مع سمات الطبقة الأرستقراطية التي انحدرت منها.
أعتقد أني تعاملت مع هذا الكتاب بالجزء الخيالي من شخصيتي، لم أفكر فيه قط بطريقة ناضجة، لم أحلله وأحلل أسلوبه الأدبي كما أفعل مع بقية الكتب، كما أنه ليس كتاب سيرة ذاتية يمكن أن تستمتع به. على سبيل المثال تمتعت بقراءة سيرة نجاة الصغيرة، وسيرة هاني شنودة، كنت أقرأ وأستمع إلى كثير من أغانيهما، خاصة غير المشهورة، أما عنايات فهي سيرة عن الوحدة والاكتئاب والضعف والتساؤلات والنهايات المأساوية!
حين قرأت مقطوعات من مذكرات عنايات تملكتني الرغبة في العودة إلى دفاتر مذكراتي، فقمت وأحضرت واحدةً منها ترجع لثلاثة أعوام مضت فقط، من 2018، لم أستطع أن أكمل قراءة صفحتين. أنا شخص لا يحب الحنين إلى الوراء، ويهرب دائماً من الارتباطات الشَّرطية بين المشاعر والأماكن والشخصيات. لذا عرفت أنني لن أعود أبداً لقراءة دفاتر مذكراتي التي هي نحو 8 أو 9 دفاتر حتى اليوم، ربما فقط إن أصبحت شخصية ذات أهمية في المستقبل، أعطيها لصحفية شغوفة تأثرت بكتاباتي وأرادت أن تكتب سيرتي قبل الموت. أقلب في دفاتري وأتأكد أني كتبت شيئاً صادقاً خالياً من المجازات ولو لمرة واحدة فقط.
أفكر كثيراً في مشاعر عنايات، وأتخيلها في مراحل مختلفة من حياتها، حتى أصبحت عالقة تماماً بين عامي 1960 و1963، آخر ثلاث سنوات ما عمرها، أخترع سيناريوهات كثيرة حول كيف كان من الممكن أن تنجو، مثلاً أعرف أن الستينيات كانت فترة ازدهار الأغنية العربية والمسارح والتياتروهات، لماذا لم تجلس عنايات في بنوار في تياترو بالقاهرة تشاهد المنولوجات المضحكة؟ لماذا لم تحاول أن تحول مأساتها لمزحة كما فعل المصريون على مر الزمان؟ أتخيلها تتزوج فقط للهروب من حزم راهبات المدرسة الألمانية، وهي لم تزل مراهقة في العشرين من عمرها بعد، ولا تعلم شيئاً عن الحياة والمسؤوليات، ظنَّتْ أنها هاربة من الجحيم إلى الجنة، لكنها فقط كانت تتنقل بين درجات الجحيم.
أتخيلها تتساءل عن جدوى الحياة بعيداً عن "عباس"، طفلها الوحيد، وعن مفهوم العشرة والحنية في زوج يبعثرها بين المحاكم ويطلبها في بيت الطاعة، تتساءل ألم يعرف أبداً أنها أضعف من كل هذا، وأنها لم تكن بحاجة سوى لكتابة "الحواديت"؟
تتبُّع سيرة عنايات، التي فارقت الحياة ضعيفة ووحيدة ومشتتة بابتلاعها عشرين حبة وردية من المنوم بعد غلق شيش النافذة ودفن نفسها أسفل اللحاف الثقيل لتقي نفسها برد يناير (كانون الثاني)، يزيدني أنا -التي عرفتها بعد خمسين عاماً من موتها- قوة وصلابة، أفكر في أنني أحب عنايات، وأحب أروى صالح، لكني لا أريد أن أفارق الحياة بطريقتهما، بل تزيداني عناداً، لأنني أريد أن أنتقم لهما، أريد أن أعيش ما كانتا تتمنيانه، وأن أكتب أكثر بكثير مما أرادتا.
لهذا يتلاشى قلقي من الأحداث السيئة، كل حدث سيئ هو بذرة محتملة لقصة فريدة، المآسي فقط هي ما يصنع حكايات جيدة. لهذا أعيش بلا خوف، الأحداث الجيدة تخلق السعادة، والمآسي التي لا نطلبها أبداً سنحولها لحواديت، هكذا أقول لنفسي، وأتخيل لو كنت هناك فقط قبل فجر 3 يناير (كانون الثاني) 1963، لأقف بجانب عنايات في الشرفة، نتأمل الشوارع في الفجرية، وأقنعها أنه بدلاً من الانتحار يمكنها أن تكتب ملخص ما تتذكره من الـ24 سنة الفائتة من حياتها.. كقصة. كانت ستخشى عدم نشرها، وكانت سترفض أن تنشرها على حسابها، وهذه هي معضلة المؤمنين جداً بما يفعلون، يرفضون أن يتحول لشيء مادي، ربما لهذا تَهَدَّمَ قبرها في النهاية.
لأنها تكره الموجودات الملموسة، أو لأنها بعدما كتبت إيمان قصتها قررت أن تتحرر من مسكنها، وتبحث هي هذه المرة عن الوجهة التي تريد أن تذهب إليها، تطير بيننا ككائن طيفي فقط، حيث تعيد نشر روايتها بلا وثائق ولا أرقام إيداع، وتستأنف أعمالها في معهد الآثار، مستغنية عن الـ7% زيادة على المرتب، وتحتضن طفلها، بلا اكتئاب من الأمومة ومخاوفها.
"أريد لقدمي أن تعرف أرضاً مختلفة عن بيتي، والشارع المؤدي إليه، وناساً جدداً وعقلية تتذوق الحياة بطريقة مختلفة، يا غد أعطني بساط الرحيل لأطير إلى عوالم أخرى، فأنا أحب المجهول". من أوراق عنايات الزيات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.