إنها السابعة صباحاً، وقد اصطفَّ الطابور بالفعل أمام المخبز العام في حي باب الجديد في تونس. خبز الباجيت الفرنسي، الذي يبلغ سعره 0.07 دولار فقط يختفي من على الأرفف، حيث يندفع التونسيون، صغاراً وكباراً، لشراء السلعة اليومية التي يشحُّ عرضها.
قال رجلٌ مسن لموقع Middle East Eye البريطاني وهو ينتظر في الطابور ليدفع ثمن الخبز: "عليك أن تصل إلى هنا مبكراً، وإلا فلن تحصل على أي خبز. أضطر أحياناً إلى الوقوف في الطابور لمدة 15 دقيقة أو أكثر لمجرد الحصول على الخبز الفرنسي".
أزمة الخبز في تونس تتفاقم
تتكشف مشاهد مماثلة في جميع أنحاء البلاد. من مدينة بنزرت الشمالية إلى بلدتي جربة وتطاوين، يشكو التونسيون من طوابير طويلة وتضاؤل إمدادات الخبز.
يُعَد الخبز مكوناً حيوياً في النظام الغذائي لكل أسرة تونسية، وهو ضروري لأطباق محلية الصنع مثل الملوخية والأوجا والشكشوكة. لكن ليس الخبز فقط هو الذي يصعب الحصول عليه. المنتجات الأخرى القائمة على القمح، مثل الدقيق والكسكسي والمعكرونة، نادرة على نحوٍ متفاقم، إلى جانب السلع الأساسية الأخرى مثل الأرز والسكر.
في الأحياء الثرية بالعاصمة، حيث يمكن العثور على الأطباق الشهية مثل كبد الأوز في المتاجر المتخصصة، غالباً ما تكون أرفف المتاجر فارغة من السلع الأساسية. قال علاء الدين، أحد سكان بلدة سيدي بوزيد: "إذا انتظرت حتى الظهر، فلن تجد خبزاً في أي مكان، وانس أمر العثور عليه في متجر عادي أو سوبر ماركت.. سيكون متاحاً فقط في المخبز".
يقول اقتصاديون إن لبَّ المشكلة يكمن في تعثُّر الحكومة في تغطية الدعم الذي اعتمد عليه كثير من التونسيين لعقود.
الحرب في أوكرانيا أثرت على توفير القمح في تونس
مع عجز في الميزانية بمليارات الدولارات وتزايد مدفوعات الديون الدولية، أوقفت الحكومة بيع الدقيق المدعوم لمئات من المخابز الخاصة الأسبوع الماضي، مما أدى إلى إضرابات واحتجاجات يوم الإثنين، 7 أغسطس/آب.
تنتج الدولة الواقعة في شمال إفريقيا ما معدله 1.1 مليون طن متري من القمح سنوياً، لكن الاستهلاك يُقدَّر بحوالي ثلاثة ملايين طن متري. وتلبي تونس أقل من نصف احتياجاتها المحلية، وتعتمد بشكل كبير على أوكرانيا وروسيا وبلغاريا واليونان ورومانيا في إمدادات القمح. لكن مما زاد الطين بلة هذا العام هو انخفاض محصول القمح بنسبة مذهلة بلغت 60% بسبب الجفاف الشديد، مما أدى إلى تفاقم أزمة الخبز.
كان الاقتصاد التونسي أيضاً في حالة اضطراب منذ ثورة 2011، مع الاضطرابات السياسية وجائحة كوفيد والغزو الروسي لأوكرانيا الذي أضرَّ بخزائن الدولة.
أدت الحرب في أوكرانيا أيضاً إلى اختفاء منتجات الحبوب بشكلٍ منتظم، مما أدى إلى ندرة المنتجات في المتاجر ومحلات السوبر ماركت. وأدى غياب التحسن في حالة الاقتصاد منذ استيلاء الرئيس قيس سعيد على السلطة في عام 2021 إلى تراجع مسألة القمح في قائمة أولويات الحكومة.
وبحسب الجمعية غير الحكومية لمكافحة الاقتصاد الريعي، تأخرت تونس عاماً في دفع إعاناتها للوكالة الوطنية للحبوب، مما أجبرها على خفض واردات القمح الصلب بنسبة 30% هذا العام.
وقال فاضل قابوب، أستاذ الاقتصاد بجامعة دينيسون ورئيس المعهد العالمي للازدهار المستدام، إن نقص الخبز في تونس، إلى جانب تحديات دعم الغذاء العامة، كان نتيجة عقود من السياسات الفاشلة.
وقال قابوب لموقع Middle East Eye: "المشكلة الأساسية هي أننا فقدنا سيادتنا الغذائية"، مضيفاً أن "قرار دفع المزارعين نحو المحاصيل النقدية الموجهة للتصدير، مثل الفراولة، جاء على حساب المواد الغذائية الأساسية".
البحث عن استراتيجية مستدامة
من أجل الحد من واردات القمح، بذلت العديد من الحكومات التونسية جهوداً لمعالجة هذه المشكلة، إما عن طريق زيادة الأسعار تدريجياً وإما تقليل حجم الرغيف.
ومع ذلك، أثارت بعض هذه المحاولات غضباً واسع النطاق. في العام 1984، وتحت ضغط من صندوق النقد الدولي، أنهت حكومة الرئيس الحبيب بورقيبة دعم القمح بالكامل، مما أدى إلى ارتفاع أسعار الخبز بنسبة 100%. ونتيجة لذلك، شهدت البلاد "أعمال شغب الخبز" على مستوى البلاد والتي خلفت 150 قتيلاً قبل أن تتراجع الحكومة عن سياستها.
كان سعيد، الذي كان يتفاوض على حزمة قرض بقيمة 1.9 مليون دولار مع صندوق النقد الدولي، متحفظاً على خفض الدعم، مما أودى بالصفقة إلى طريقٍ مسدود. ولمعالجة النقص في الخبز، قال إنه يجب أن يكون هناك "نوع واحد فقط من الخبز"، واتخذ خطوات لمنع المخابز الخاصة من استخدام الدقيق المدعوم في مكوناتها لإنتاج أصنافٍ أخرى تكلفتها أعلى قليلاً.
ومنذ 1 أغسطس/آب، منعت وزارة التجارة أكثر من 1500 خباز من القطاع الخاص من شراء الدقيق المدعوم، مما عرَّض أعمالهم للخطر وأشعل مظاهرات.
قال قابوب: "يمكن للحكومة أن تحاول التوصل إلى طريقةٍ مبتكرة لخفض الدعم الذي يمنح صندوق النقد الدولي ما يريد دون أن يكون ملحوظاً جداً للجمهور. لكن من الصعب توقُّع كيف يمكن أن يحدث هذا".
وأضاف أن الحل الوحيد المستدام لمشكلة الأمن الغذائي في تونس "هو استراتيجيةٌ متماسكة وشاملة للاستثمار في السيادة الغذائية والإيكولوجيا الزراعية".
بالنسبة للعديد من التونسيين من الطبقة العاملة، فإن فكرة إنهاء الدعم غير واردة. قال نور الدين، أحد المترددين بانتظام على المخبز العام في باب الجديد: "يجب أن يكون هذا مؤقتاً فقط.. إنهاء الدعم سيؤدي إلى الفوضى".
وأضاف محمد، الذي يدير المخبز: "أعتقد أن هذه هي بداية نهاية الخبز المدعوم. إذا كان هذا هو الحال، فإن الشعب التونسي سيكون في نهاية المطاف هو الضحية".