يواجه العالم أزمة غذاء طاحنة، فاقمتها الحرب في أوكرانيا، من ارتفاع للأسعار وشح في المعروض من الحبوب والزيوت، لكن الأرقام الخاصة بكميات الطعام المهدرة ترسم صورة قاتمة لمستقبل الغذاء وليس فقط لحاضره.
فبحلول عام 2050، سيحتاج البشر إلى زيادة إنتاج الغذاء بما يصل إلى 56%، مقارنةً بما كان يتم إنتاجه عام 2010 لإطعام سكان العالم الذين يتكاثرون على الدوام. وبينما يتفق الخبراء على أنه يمكننا فعل ذلك باستخدام ممارسات الزراعة والإنتاج الحالية، فقد يكون ذلك كارثياً على كوكب الأرض. فكيف يمكن تلبية هذا الارتفاع في الطلب إذاً؟
نشر موقع WebMD الأمريكي تقريراً شارحاً بعنوان "كيف سنطعم أنفسنا في المستقبل؟"، رصد الوضع الحالي وممارساته السلبية في الزراعة وتربية الحيوانات وكارثة هدر الطعام، جنباً إلى جنب مع الحلول التي يقدمها خبراء الزراعة وإنتاج الغذاء حول العالم.
كيف يمكن تكييف الزراعة؟
في الماضي، كان للاعبين الكبار في الصناعة الزراعية هدف رئيسي واحد: زراعة أكبر قدر ممكن من الغذاء. لكن الآن تأتي هذه المحاصيل الضخمة بثمن باهظ للغاية. على الصعيد العالمي، يمثل إنتاج الغذاء 70% من إجمالي استخدامات المياه العذبة و26% من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، ويشغل نصف مساحة الأرض الصالحة للسكن على الكوكب. إذا كنا سنظل قادرين على إطعام مليارات الأشخاص بعد عقود من الآن، فلا يمكن أن يكون الحل هو الاستمرار في الزراعة بالطريقة نفسها.
يقول الدكتور راج خوسلا، أستاذ الزراعة الدقيقة في جامعة ولاية كولورادو الأمريكية: "هذه الممارسات ليست مستدامة".
الزراعة الدقيقة هي ممارسة جديدة نسبياً، تستخدم التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والأتمتة لإدارة أجزاء صغيرة من الحقل إدارةً مختلفة، وصولاً إلى كل صف منفرداً. وتؤدي إضافة كميات دقيقة من المياه ومبيدات الآفات ومبيدات الأعشاب والأسمدة (بما في ذلك النيتروجين، وهو عنصر غذائي أساسي للنباتات التي لها آثار سلبية كبيرة في البيئة) إلى إنتاج محاصيل أكثر باستخدام كمية أقل من كل منها؛ مما يعني كميات أصغر من الجريان السطحي المُلِّوث للمجاري المائية وانخفاض غازات الاحتباس الحراري المنبعثة من معدات المزرعة.
يقول خوسلا: "على مستوى البحث وبين أوائل الذين تبنوا الممارسات والتقنيات الجديدة، نشهد تحسناً كبيراً في كفاءة استخدام المياه، وكفاءة استخدام النيتروجين. لكن هناك ملايين المزارعين في العالم، ولا يمتلكون جميعاً الموارد لإعادة الاستثمار في ممارسات الإنتاج الجديدة".
ومن بين الجهود الأخرى، يعمل العلماء ومنتجو الأغذية على تحسين أنظمة الري لاستخدام كميات أقل من المياه، وإعادة إدخال محاصيل التغطية للمساعدة في تحسين التربة، واستخدام طرق مبتكرة لإيصال البذور إلى الأرض.
وفي كثير من الحالات، البذور نفسها تتغير. ففي جميع أنحاء العالم، يستخدم المزارعون بذوراً مُعدّلة وراثياً تقلل من البصمة البيئية للزراعة. وتوجد الآن قاعدة بيانات ضخمة للتنوع الجيني تُستخدَم لإنشاء محاصيل أكثر مرونة.
المزارع أيضاً يجب أن تتغير
بدأ شكل المزارع يتغير أيضاً، فلم تعد بعض الابتكارات الرائدة تحتاج إلى مساحات شاسعة من الأراضي. ولا تقتصر هذه الممارسات على توفير المياه والتربة والموارد الطبيعية الأخرى؛ لأنَّ الطعام يُزرع بالقرب من مكان بيعه، بل تقلل أيضاً من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري المرتبطة بالنقل.
على سبيل المثال، هناك الزراعة العمودية، التي تنمو فيها المحاصيل لأعلى، داخل مبانٍ يمكن التحكم في مناخها، مثل المستودعات. ومن المتوقع أن يتحول هذا النوع من الزراعة إلى صناعة بقيمة 10 مليارات دولار بحلول عام 2026. تجمع الزراعة العمودية بين التكنولوجيا والأنظمة التي تحافظ على الموارد.
وبالنسبة لبعض المحاصيل، يمكن للزراعة العمودية إنتاج 10 إلى 20 مرة للفدان الواحد من الحقول التقليدية. ويزيل النمو في الداخل القيود المتعلقة بالمناخ. على سبيل المثال، أعلنت شركة Driscoll's، أحد مزارعي التوت الرئيسيين في الولايات المتحدة، مؤخراً عن خطط لبناء مزرعة عمودية للمنطقة الشمالية الشرقية؛ مما يعني أنَّ السكان ستتوفر لهم قريباً الفراولة المحلية، حتى في أعماق الشتاء.
مستقبل اللحوم
لا تمثل المحاصيل التهديد الزراعي الوحيد على البيئة؛ فالثروة الحيوانية هي أيضاً مساهم رئيسي في تغير المناخ. إذ تُستخدَم 80% من الأراضي الزراعية في العالم لتربية الحيوانات، لكن هذه المخلوقات تساهم فقط بنسبة 18% من السعرات الحرارية المقدمة للعالم.
وجميع هذه الحيوانات تحتاج إلى الكثير من الماء أيضاً. ومن 26% من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في العالم، يأتي أكثر من نصفها من تربية الحيوانات. ومن بين جميع الحيوانات التي تُربَى من أجل الغذاء، تتسبب الماشية بأكبر قدر من الضرر.
وأحد الحلول الواضحة هو تقليل استهلاكنا للمنتجات الحيوانية. ووجدت دراسة جديدة في دورية Nature Food أنَّ مجرد تناول كميات أقل من اللحوم يمكن أن يقلل من الآثار البيئية بنسبة تصل إلى 60%، التي يمكن أن تصل إلى 70% في حال استخدام بدائل نباتية بدلاً من 80% من المنتجات الحيوانية.
الدراسة التي نشرت في Science Magazine، في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2020، خلصت إلى أنه حتى لو أوقفت البشرية بأثر فوري استخدام الوقود الأحفوري، فسيظل تحقيق الهدف الرئيسي من وراء الاتفاقية الدولية للمناخ المعروفة باتفاق باريس شبه مستحيل، والسبب هو الانبعاثات الكربونية الناتجة عن تصنيع اللحوم.
لكن رغم كل تلك الدراسات والأبحاث، تشير توقعات من منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، إلى أن الاستهلاك العالمي من اللحوم من المتوقع أن يستمر في النمو خلال العقود القادمة.
من أجل تلبية الطلب مع الحفاظ على استدامة البيئة، سيتعين على المزارعين إيجاد طرق لإنتاج المزيد من اللحوم ومنتجات الألبان، دون الحاجة إلى المزيد من الأراضي واستخدام طرق أقل ضرراً.
طريقة جديدة لتربية الحيوانات
وهذا ما يحدث بالفعل، إلى حد ما، إذ يقول مدير سياسات المياه والأغذية عالمياً في منظمة Nature Conservancy، جاك بوبو: "لقد تغيرت طريقة إطعام الحيوانات كثيراً. نتبع تقنية التغذية الدقيقة للحيوانات منذ عقود. وتنتج البقرة اليوم من اللحوم أكثر بكثير مما تنتجه البقرة عام 1980".
وأضاف: "لذلك انخفضت قطعان الماشية، بينما ظل إنتاج لحوم الأبقار ثابتاً نسبياً. وكان ذلك جيداً للبيئة". وربما نتيجة لذلك، فإنَّ مساحة الأرض المخصصة لتربية الحيوانات على مستوى العالم آخذة في الانخفاض.
يعمل العلماء والمزارعون على تطوير طرق جديدة للحد من التأثير البيئي لتربية الحيوانات من أجل الغذاء. وتشمل هذه الطرق تعديل علف الماشية بحيث ينخفض غاز الميثان (أحد الغازات الدفيئة الضارة) الذي ينتج مع تجشؤ الأبقار وإطلاقها الريح، واستخدام أنظمة متكاملة تشمل المحاصيل وتربية الأحياء المائية والزراعة الحيوانية لتقليل الفاقد واستخدام موارد أقل.
على سبيل المثال، الأنظمة الرعوية الحرجية التي تضع الأشجار وترعى الماشية على الأرض نفسها؛ بحيث تعمل الأشجار على تحييد جزء كبير من غازات الاحتباس الحراري، واستخدام الأدوات الجينية لفحص الماشية بحثاً عن السمات المفضلة وتنشئة حيوانات أكثر مرونة.
ثم هناك الحلول الزراعية المجاورة؛ وهي طرق جديدة لإنتاج البروتين الذي يحاكي اللحوم. وكثير منها نباتي؛ مثل البرغر في بعض سلاسل الوجبات السريعة وفي متاجر البقالة التي يمكن أن تتحول إلى شيء حقيقي. بينما تُزرَع بعض اللحوم في المختبرات؛ حيث يكتشف العلماء كيفية زراعة البروتين الحيواني دون الحيوانات.
كارثة هدر الطعام
إليكم حقيقة مذهلة: إذا كان فقد الطعام وهدره بلداً، فسيكون ثالث أكبر دولة مصدرة لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري في العالم. على الصعيد العالمي، يُهدَر ما يقرب من ثلث إجمالي المواد الغذائية المنتجة. ويحدث أكثر من نصف هذا الهدر على المستوى الفردي داخل المنازل. في غضون ذلك، عام 2020، لم يكن لدى 811 مليون شخص ما يكفي من الطعام.
في الولايات المتحدة، يُقدِّر الباحثون أنَّ تقليل نفايات الطعام إلى النصف يمكن أن يقلل التأثير البيئي لإنتاج الغذاء بطرق جوهرية؛ إذ سيوفر 3.2 تريليون غالون من المياه -أو ما يصل إلى 28 مليون منزل أمريكي يستخدمها سنوياً. وسيعمل أيضاً على تقليل استهلاك الطاقة بما يكفي لتشغيل 21.4 مليون منزل في الولايات المتحدة لمدة عام. وسيؤدي أيضاً إلى خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بمقدار مساوٍ للانبعاثات من 23 محطة طاقة تعمل بالفحم.
وبالطبع، كل ابتكار جديد لديه القدرة على تقديم تحدٍّ مختلف للاستدامة – فكروا كيف أنه حتى وقت قريب، كان أي شيء يساعد المزارعين على زيادة نمو المحاصيل يعتبر مفيداً. وقد استغرق الأمر عقوداً حتى ينتبه العالم للضرر الذي تسببه بعض هذه الممارسات.
تقول سارة شا، الباحثة والخبيرة الإستراتيجية في KitchenTown، وهي حاضنة صناعة المواد الغذائية بوادي السيليكون: "كيف نتأكد من أننا نفكر بمنهجية في العواقب غير المقصودة لأفعالنا؟ إنه نظام معقد ومترابط. إنَّ التغييرات الصغيرة لها تأثيرات مضاعفة. يجب أن يشعر كل من يعمل في مجال الطعام براحة أكبر في فهم علاقته بالصورة الأكبر، ثم اتخاذ إجراء مع وضع تلك الرؤية طويلة المدى في الاعتبار".