لم تأت الأيام الماضية بتحسنٍ كبير في أوضاع الموانئ التي تعطلت فيها حركة شحن الأغذية في جميع أنحاء العالم، بل الواقع أن الأمر يزداد سوءاً في بعض المناطق.
بدايةً من الفلبين، التي قال مسؤولون في أحد موانئها التي تعد نقطة رئيسية لشحنات الأرز في وقت سابق من هذا الأسبوع إن رصيف الميناء معرض لخطر الإغلاق حيث تتراكم آلاف من حاويات الشحن، لأن إجراءات الإغلاق تجعل من الصعب نقلها. وعلى النحو ذاته، بات حظر التجول المفروض في غواتيمالا وهندوراس، المعروفتين بالقهوة على وجه الخصوص، يحد من ساعات العمل في الموانئ ويبطئ الشحنات. وفي مناطق مختلفة من إفريقيا، التي تعتمد اعتماداً كبيراً على واردات المواد الغذائية، أصبحت الموانئ تفتقر إلى أعداد كافية من العمال لتفريغ الشحنات المتراكمة، بحسب تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية.
كيف يصل الطعام إلى موائدنا؟
والاختناقات التي تشهدها الموانئ ليست سوى مثال آخر على كيفية تعطيل الفيروس لحركة إنتاج وتوزيع الطعام في جميع أنحاء العالم. فقد أفضى توقف خطوط نقل الأغذية عن العمل وإصابة عمال المصانع بالفيروس والحظر المفروض على التصدير وحالة الذعر المنتشرة إلى ما يراه المتسوقون من فراغ في أرفف متاجر البقالة، حتى في ظل توفر البضائع في المخازن والموانئ.
وينتقل الطعام من المزارع إلى الموائد من خلال شبكة معقدة من التفاعلات وعمليات التبادل. ومن ثم فإن أي قدر من المشكلات ولو لعدد قليل من الموانئ يمكن أن يمتد تأثيره مفضياً إلى حالة بطء عامة مثيرة للقلق. على سبيل المثال، يُشحن القمح المزروع في أوروبا إلى الهند، حيث يتحول إلى خبز النان، ليُصدّر في النهاية إلى الأسواق الأمريكية. وبالتالي تتسبب أي اضطرابات على طول الطريق في حدوث تأخيرات كبيرة.
ولا يقتصر الأمر على ذلك، فثمة خطر وشيك بأن تزداد الأمور سوءاً إذا استمرت المشكلات التي تعانيها الموانئ في الانتشار. فعلى سبيل المثال، دولٌ قليلة هي المسؤولة عن زراعة وتصدير الجزء الأكبر من الأرز والقمح في العالم، وهي منتجات تعد مصادر أساسية للسعرات الحرارية. كما تعتمد أجزاء كبيرة من الكوكب في تغذية الماشية على فول الصويا المستجلب من أمريكا الجنوبية، وصولاً إلى الغالبية العظمى من إمدادات الكاكاو التي تأتي بالأساس من منطقة صغيرة في غرب إفريقيا.
وحتى بلدان مثل الولايات المتحدة، وهي مصدر رئيسي للأغذية في العالم، تعتمد أيضاً على الواردات في منتجات مثل النبيذ والتوابل والجبن والمنتجات غير الموسمية، وإلا فكيف يمكنك تحضير فطائر الأفوكادو طوال العام.
وعلى سبيل المثال، تعتمد شركة Saffron Road الأمريكية للأطعمة المجمدة على شحنات هندية من خبز النان وغيره من مكونات أطعمتها. أدى الإغلاق العام الذي يخضع له نحو 1.3 مليار شخص من سكان البلاد إلى توقف نقل البضائع داخل الهند إلى نقطة أقرب، وأثارت الحكومة حالة من الارتباك عندما أبلغت جميع الموانئ الرئيسية أن انتشار الفيروس سببٌ وجيه لإيقاف بعض العمليات.
يقول عدنان دوراني، الرئيس التنفيذي لشركة Saffron Road، إن الشركة قد تضطر إلى البحث عن موردين آخرين إذا استمرت التأخيرات لفترة أطول.
"فهو موقف لم نتعرض له من قبل".
بدء العودة التدريجية للعمل
ومع ذلك، بدأت بعض أجزاء العالم تشهد عودةً تدريجية إلى العمل في موانئها التي كانت معطلة.
لقد تجاوزت الصين، على سبيل المثال، الجانب الأسوأ من مشكلاتها. ففي ذروة تفشي المرض في البلاد، تراكمت آلاف من حاويات الخنازير المجمدة والدجاج ولحوم الأبقار في الموانئ الرئيسية بعد تعطل النقل ونقص العمالة وما تبعه من تأخر في عمليات النقل. كما أفضت الأزمة إلى ندرة في الحاويات المتوفرة في أماكن أخرى من العالم، وهو ما تفاقم بعد ذلك مع استمرار التوقف في رحلات الشحن من الدول الآسيوية إلى أنحاء العالم، إلا أن تلك المشكلات بدأت تُحلّ تدريجياً منذ ذلك الحين مع عودة البلاد إلى العمل.
وفي البرازيل، أكبر مصدر في العالم لفول الصويا ولحم البقر والقهوة والسكر، يسير عمل الشحنات بوتيرة طبيعية وسط جهودٍ مشتركة بين الحكومة والشركات للإبقاء على تدفق حركة الشحن.
وعملت شركة "ميرسك" الدنماركية A.P. Moller-Maersk A/S، أكبر الشركات العاملة في مجال حاويات التبريد في العالم، على إحضار 1800 حاوية فارغة إلى الدولة الواقعة في أمريكا الجنوبية لمواجهة النقص الحاد في شحنات اللحوم البرازيلية. وقالت الشركة إن الحاويات المتاحة باتت شحيحة في البرازيل بعد احتجاز جزء كبير من حاويات التبريد الخاصة بها في الموانئ الرئيسية بالصين في أعقاب حالة الإغلاق العام المعلنة في آسيا.
كما تمكنت البرازيل من تصدير كميات قياسية من فول الصويا في شهر مارس/آذار بعد تدخل الحكومة لوقف إضرابٍ هدّد به عمال الموانئ الذين كانوا قلقين بشأن سلامتهم.
وقال البرازيلي سيرجيو مينديز، رئيس شركة تصدير الحبوب المعروفة باسم Anec، "إن حجم الصادرات البرازيلية كبير للغاية، بدرجةٍ تستوجب حل أي مشكلةٍ ولو صغيرة بأسرع وقت ممكن، وإلا، فإنها فقد تؤدي إلى اختناقات لوجيستية في جميع أنحاء العالم".
كورونا يشل الطلب على المنتجات
لكن مع انتشار المرض، بدأت المشكلات المتعلقة بالحاويات تظهر في مناطق أخرى من العالم. وتُرسل الصناديق المتينة، التي غالباً ما تكون مصنوعةً من الفولاذ ويبلغ قياسها عادةً ما بين 20 قدماً (نحو 6 أمتار) إلى 50 قدماً (15 متراً)، في رحلاتها جيئةً وذهاباً محمولة على السفن في جميع أنحاء الكوكب والبضائع بداخلها. إلا أن حركة التدفق تلك تعطّلت بشدة خلال الفترة الماضية، فقد أدى انتشار الفيروس إلى إبطاء حركة التصنيع وشلّ الطلب على بعض المنتجات. وعلى سبيل المثال، شهد ميناء لوس أنجلوس انخفاضاً في حجم البضائع بنسبة 31% في شهر مارس/آذار مقارنةً بالعام الماضي، بعد أن عمد تجار التجزئة إلى تخفيض الطلبات.
يقول فيليب بينارد، المفوض العام لإحدى جمعيات الإنتاج الأوروبية Freshfel Europe، إن مصدّري الأغذية باتوا مضطرين إلى الانتظار لفترة أطول حتى يتمكن عمال الموانئ من تفريغ الشحنات الواردة وإعادة تعبئة السفن ببضائعهم. والحال هكذا في أوروبا، حيث تشير العمليات على نحو طبيعي بشكلٍ أو بآخر، لكن تراكم الحاويات يتسبب في حدوث تأخيرات.
وهي مشكلة تعانيها كندا أيضاً، بعد أن ألغت شركات النقل بعض طرق الشحن بسبب انخفاض الطلب على السلع المصنعة.
وفي جميع موانئ نيجيريا، تبرز المشكلة ذاتها إثر تجمع عدد كبير جداً من الحاويات، التي تتراكم معيقةً الحركة في الموانئ. ويواجه العمال المسؤولون عادةً عن عمليات الشحن والتفريغ صعوبات في الوصول بعد أن خضعت وسائل النقل العام لحالة الإغلاق أيضاً. كما تغلق البنوك القريبة من الموانئ أبوابها، وهو ما يصعب تحصيل الإيصالات غيرها من المعاملات المالية.
وكلما بقيت الأطعمة عالقةً في الحاويات الطافية عند الأرصفة، تفاقم النقص أكثر فأكثر وارتفعت الأسعار.
الموانئ مكدسة بالبضائع
يقول توني نوابونكي، رئيس نقابة مخلّصي الجمارك النيجيريين المرخصين، وهي النقابة التي تمثل العاملين المسؤولين عن تخليص البضائع والحيلولة دون تراكمها: "الموانئ مكتظة ببضائع تفوق قدرتها الاستيعابية. والسبب الرئيسي في ذلك هو أنه لا توجد حركة الآن. وحتى هؤلاء الذين تلقوا تعليمات بالذهاب إلى الموانئ لتقديم الخدمات الأساسية، لا يصلون إليها لأن حركة النقل تعمل بالكاد"، كما أن ليس جميع العاملين لديهم الأوراق اللازمة لإثبات أنهم موظفون أساسيون.
ويقول نوابونكي: "الشرطة منتشرة في الطرقات، والناس خائفون. هناك مضايقات واستيقافات في كل مكان".
وحتى عندما بدأت الأوضاع في التحسن نوعاً ما في بعض الأماكن، تصاعد قلق آخر بشأن احتمال إصابة عمال الموانئ بالفيروس. إذ يجب عزل الموظفين المخالطين إذا كانوا عرضة للإصابة، وهناك خطر انتشار العدوى بين الجميع. وقد أوقفت مراكز عالمية مثل سنغافورة وشنغهاي عمليات تفريغ وشحن البضائع ومنحت طواقمها إجازات لمنع انتشار الفيروس.
وفي أستراليا، تأكد هذا الأسبوع إصابة عاملين في ميناء بوتاني، أحد أكبر موانئ الحاويات في البلاد، بفيروس "كوفيد 19". في الوقت الذي لا يزال 17 عاملاً آخر يعزلون أنفسهم ذاتياً لمدة 14 يوماً.
يقول بول أوكوين، المدير التنفيذي لميناء جنوب لويزيانا، أكبر محطة حاويات في الولايات المتحدة، إن التعامل مع خطر إصابة العمال بالفيروس يأتي في صدارة أولوياته، فقد أجبرت الإصابة بالفعل بعض أفراد الأمن على عزل أنفسهم ذاتياً، ولم يعد مسموحاً لأطقم السفن بالنزول إلى الميناء، في محاولةٍ لوقف انتشار الفيروس.
وأبدى أوكوين خوفه، قائلاً: "أخشى أننا قد نفقد بعض العمال، وعندما تفقد عمالاً يصبح من الصعب الحفاظ على العمل بنفس الوتيرة. أي أننا قد نشهد تأخراً في حركة العمل".