يواجه سوق المواشي في مصر أزمات متصاعدة بسبب مجموعة من العوامل أدت لارتفاع أسعار الماشية وتراجع المعروض في الأسواق، وهو ما خلق أزمة مبكرة قبل عيد الأضحى، من المتوقع أن تكون لها تأثيرات عديدة على قرارات المواطنين بشأن ذبح الأضاحي هذا العام.
أحد أبرز الأسباب ارتبط بما يحدث من اضطرابات أمنية في السودان، وهو ما انعكس سلباً مع عوامل اقتصادية أخرى على تجار الماشية ومحال الجزارة، التي أغلق الكثير منها أبوابه لتراجع معدلات الربح، والمقاطعة الإجبارية للحوم من جانب قطاعات عديدة بالمجتمع المصري.
أزمة السودان وتراجع سوق المواشي
يُرجع سعيد عبد الغني، وهو تاجر مواشي تحدث إليه "عربي بوست"، الأزمة الراهنة إلى توقف وصول الجمال والأبقار عبر الحدود السودانية مع اندلاع الحرب الدائرة الآن.
وأشار إلى أن منطقة شلاتين على الحدود المصرية السودانية، والتي كانت سوقاً لاستقبال المواشي، وخاصةً الجمال، تعاني شحاً الآن في المواشي الواصلة إليها، وهو ما دفع كثيراً من التجار لإعلان وقف عمليات استقبال الجمال والأبقار الواردة من السودان، والتي يتم توزيعها من هناك إلى باقي المحافظات المصرية.
وأوضح أن المواشي السودانية تأتي بالأساس من المراعي المنتشرة في إقليم دارفور غربي السودان، وتشهد تلك المنطقة في هذا التوقيت حالة من الفوضى الأمنية وحالات كر وفر واشتباكات مسلحة بشكل مستمر، وبالتالي فإن التجار الذين كانت مهمتهم نقل الماشية من الإقليم المضطرب إلى شمال شرق السودان، ومنها إلى مصر، لم تعد لديهم القدرة على ذلك الآن، مع الغياب التام لقوات الشرطة هناك، والتي كانت تعمل على تأمين نقل المواشي.
ولفت إلى أن اللحوم السودانية تأتي إلى مصر أيضاً من ولاية كردفان بوسط السودان، حيث يواجه التجار هناك مشكلات في نقلها إلى معبر "أرقين" على الحدود بين مصر والسودان، والذي توجد فيه وحدات للحجر الصحي.
لكن مع اكتظاظ أعداد هائلة من المواطنين على الطرق المؤدية إلى المعبر ولأيام طويلة، أسهم ذلك في توقف عمليات نقل اللحوم، الأمر الذي انعكس أيضاً على عدم توفر اللحوم في منطقة دراو شمال محافظة أسوان (أقصى جنوب مصر)، والتي كان بها أكبر تجمع لسوق الجمال، ويتم من خلالها توزيع الجمال إلى الأسواق المصرية المختلفة.
الحرب السودانية عطّلت قدوم 90 ألف جمل
أشار المصدر إلى أن الجمال التي تأتي من السودان قبل شهر تقريباً من عيد الأضحى تُسهم بشكل كبير في تخفيض أسعار اللحوم. وفي كل عام يتجه التجار على نحو أكبر لاستيراد الجمال، وتوفير لحومها بالأسواق المصرية استعداداً لموسم ذبح الأضاحي، والذي يتجه فيه المصريون لذبح الأبقار والجاموس والخراف.
لكن هذا العام لم يحدث ذلك، ومن المتوقع أن يكون الإقبال بشكل أكبر على الأبقار والخراف خلال الشهر المقبل، دون أن تكون هناك أعداد من المواشي تواكب المطلوب.
وارتفعت أسعار الجمال منذ عيد الأضحى السابق- وفقاً لعبدالغني- بمعدل 100%، إذ إن الجمل الصغير كان يقدر سعره بنحو 20 ألف جنيه، واليوم بنحو 40 ألف جنيه، وقبل العيد سعره مرشح للزيادة. كما أن سعر الجاموسة بلغ متوسطه العام الماضي 35 ألف جنيه، والآن وصل سعرها إلى 65 ألف جنيه، وتلك الأسعار قابلة للزيادة كلما اقترب موعد عيد الأضحى، ولا يمكن لأحد التنبؤ بها.
ويتراوح سعر كيلو اللحوم البقري في محالّ الجزارة بين 330 جنيهاً إلى 400 جنيه، فيماً يصل سعر كيلو اللحوم الجملي إلى 240 جنيهاً، بينما سجل سعر لحوم الضأن بالعظام 150 جنيهاً، ويصل إلى 320 جنيهاً في حال تم إخلاؤه من العظم.
وتدفع أسواق السودان بنحو 30 ألف طن يومياً من اللحوم التي تذبح على الحدود المصرية، وتنقل براً بالبرادات لتباع طازجة يومياً بمنافذ وزارة التموين، بسعر 165 جنيهاً للكيلوغرام، وترتفع تلك الكميات خلال فترة عيد الأضحى إلى 70 ألف طن يومياً كما حدث العام الماضي، وفقاً لعبدالغني، الذي أشار إلى أن الحرب السودانية عطلت قدوم 90 ألف جمل تأتي بالقوافل سيراً على الأقدام، في تلك الفترة من العام سنوياً، وأن العمل يسير كما هو من خلال ميناء بورتسودان، والذي تأتي من خلاله اللحوم مجمدة إلى مصر.
المعروض المحلي لن يكون كافياً
يشير محمد حمدي، وهو مرب للمواشي بمحافظة الجيزة إلى أن الأزمة الراهنة تكمن في أن اللحوم المستوردة من السودان تُسهم في ضبط الأسواق، بما فيها سوق الأعلاف التي تضاعف سعرها، وتسبب في زيادة أسعار اللحوم بشكل مبالغ فيه، لأن تراجع الكميات المستوردة من الخارج لا يكفي احتياجات المربين، ومن ثم فإن كثيراً منهم قلص من أعداد الماشية التي يقوم بتربيتها، في حين أنه تم توفير كميات من اللحوم تتماشى مع مطالب المصريين، والآن حدث اختلال جديد في السوق.
ويضيف قائلاً: "تراجُع المعروض من اللحوم المستوردة سيقود بالتبعية للضغط على اللحوم البلدي، التي يتزايد الإقبال عليها بالأساس قبل موسم عيد الأضحى، لكن المشكلة في أن المعروض المحلي لن يكون كافياً، وقد يذهب البعض نحو زيادة غلته من الماشية، وهو ما سيزيد الضغط مرة أخرى على الأعلاف، وبالتالي سيرتفع سعرها على نحو أكبر، في ظل شكاوى من عدم توفرها من الأساس، وبالتالي فإن سعر كيلو اللحوم البقري سيكون مرشحاً لأن يتجاوز حاجز 400 جنيه قبل عيد الأضحى".
ويشير إلى أن الحكومة سيكون عليها توفير الأعلاف والذرة الصفراء للمربين فس سوق المواشي بشكل كبير خلال الأيام المقبلة، والإفراج عن كميات أكبر من الشحنات المكدسة في الموانئ وتوزيعها بشكل عادل، بما لا يقود لاحتكارها من جانب مجموعة بعينها من التجار يتحكمون في سوق الأعلاف والحبوب.
وتضاعفت أسعار الأعلاف في مصر ووصلت إلى 25 ألف جنيه للطن الواحد بعد أن كان يصل سعره إلى 6000 جنيه بزيادة قدرها أكثر من 300%، كما ارتفعت أسعار طن الذرة التي كانت العام الماضي تقدر بـ6000 جنيه للطن الواحد ووصلت الآن إلى 14 ألف جنيه، وكذلك فول الصويا الذي ارتفع من 8000 جنيه العام الماضي إلى 25 ألف جنيه، وبالتالي أسهم هذا في زيادة أسعار اللحوم الحمراء بصورة غير مسبوقة.
إغلاق محال الجزارة
يشير حسين إبراهيم، صاحب أحد محالّ الجزارة بالقاهرة، إلى أن المصريين لم يلتقطوا أنفاسهم بعد أن تسببت الحرب الأوكرانية وتراجع قيمة الجنيه في ارتفاعات مضطردة في أسعار الأعلاف والحبوب بوجه عام، وبعد أن توقع البعض إمكانية انخفاض الأسعار مع السماح بدخول شحنات كبيرة من الأعلاف كانت مكدسة بالموانئ جاءت حرب السودان لتشعل الأزمة من جديد، ما كان سبباً في أن تزيد أسعار اللحوم 100 جنيه في الكيلو دفعة واحدة في أقل من شهر منذ اندلاع الحرب بمعدل أكثر من 30%.
تسببت تلك الارتفاعات المتتالية في هزة كبيرة في السوق. ووفقاً لإبراهيم فإن محال الجزارة تشهد في هذا التوقيت حالة من الركود والهدوء، سواء فيما يتعلق بشراء اللحوم المذبوحة أو حتى عبر التواصل مع الجزارين لحجز أضاحي العيد، وهو موسم ينتظره تجار سوق المواشي والجزارون كل عام، وأصبح تقليل استهلاك اللحوم أمراً مفروضاً على الجميع، وتسبب في إغلاق كثير من محال الجزارة.
وبحسب دراسة صادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن استهلاك المصريين من اللحوم تراجع بنسبة 93.9%، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وهو الأمر ذاته بالنسبة للطيور، كما انخفضت نسبة الاستهلاك من الأسماك لتصل إلى 92.5%.
وتوقع إبراهيم أن تقفز أسعار اللحوم بمعدلات مضاعفة الشهر المقبل، ويقود ذلك بالتبعية إلى تراجع الاستهلاك حتى وإن كان الأمر يرتبط بأحد أهم المواسم الدينية الإسلامية، لكن تراجع القدرة الشرائية الذي يظهر واضحاً للعيان أمام الجزارين يشير إلى أن سوق المواشي سيدخل في فترة ركود أخرى، وقد يكون الإقبال بشكل أكبر على اللحوم المستوردة من الخارج.
ويذهب لتأكيد أن الحكومة المصرية سيكون عليها إيجاد بدائل سريعة للحوم السودانية، وقد تأخذ قدراً من الوقت حتى تتمكن من إبرام صفقات جديدة مع بلدان أخرى، كما أنها ستفقد ميزة إمكانية إدخال الجمال والأبقار بالجنيه المصري عبر الحدود السودانية، وبالتالي من المتوقع ارتفاع أسعار اللحوم التي توفرها وزارة التموين وجهات حكومية أخرى.
الاتجاه لأسواق أخرى لحين استقرار الوضع في السودان
وتطرح وزارة التموين اللحوم السودانية داخل المجمعات بأسعار مخفضة عن السوق الخارجي بنحو 30%، وهي من أكثر أنواع اللحوم المستوردة من الخارج والتي يتم توفيرها في الأسواق الحكومية، ودائماً ما تكون طازجة لأنها يتم ذبحها على الحدود البرية بين البلدين.
كما أن السودان يعد مورداً رئيسيّاً للمواشي واللحوم الحية، وهي إحدى السلع الاستراتيجية لمصر، حيث تمد السودان مصر بنحو 10% من احتياجاتها.
كان الدكتور علي المصيلحي، وزير التموين المصري، قد وقع اتفاقاً مع شركة اتجاهات السودانية لتوفير اللحوم الطازجة لمدة عامين بدءاً من أول يناير/كانون الثاني 2022 وحتى يناير/كانون الثاني 2024، ودائماً ما يتم استقدام اللحوم السودانية من خلال شركة اتجاهات السودانية، حيث يتم استقدام الماشية الحية من السودان إلى مجازر أبو سمبل، لذبحها ثم إرسالها إلي محجر توشكى، تمهيداً لشحنها إلى المنافذ التموينية في محافظات الجمهورية، عبر الشركة المصرية للحوم والدواجن التابعة لوزارة التموين.
واتجهت الحكومة المصرية مؤخراً لتنويع استيراد اللحوم من عدة بلدان إفريقية، أبرزها تشاد والصومال وجيبوتي، وطرحها بالمنافذ الحكومية لتوفيرها بأسعار أقل من المنتجة محلياً؛ بهدف ضبط الأسعار، وفقاً لتصريحات تلفزيونية لمساعد أول وزير التموين إبراهيم عشماوي.
ويشير مصدر مطلع بوزارة التموين إلى أن توقف وصول اللحوم السودانية إلى الأراضي المصرية لن يؤثر بشكل كبير على أسعار اللحوم، وأن تعدد موارد الاستيراد من الخارج يجعل هناك إمكانية نحو سهولة تعويض المواشي التي تأتي إلى مصر عبر الحدود البرية مع السودان، كما أن استمرار التوريد عبر ميناء بورتسودان يبقى مستمراً، لكن الأزمة تكمن في أن الحرب الدائرة هناك الآن تسببت في ارتفاع أسعار اللحوم، ويكون الاتجاه لأسواق أخرى لحين استقرار الوضع في السودان حلاً مناسباً في تلك الفترة.
ويكشف المصدر لـ"عربي بوست" أن عدداً من رجال الأعمال المصريين يمتلكون مزارع لتربية المواشي في كل من تشاد وجيبوتي ما يجعلهما قبلتين ستتجه إليهما وزارة التموين لتوفير اللحوم قبل عيد الأضحى، وأن تلك اللحوم تكون بنفس جودة اللحوم السودانية لأنها تأتي حية من تلك الدول.
يحتاج المصريون إلى نحو 1.3 مليون طن لحوم حمراء هي حجم استهلاكهم السنوي، يجري استيراد 40% منها ما بين ما هو حي ولحوم مجمدة، فيما وصل عدد رؤوس الثروة الحيوانية إلى 7.5 مليون رأس ماشية بنهاية 2022، وفق بيانات وزارة الزراعة المصرية.
الحكومة قدرتها محدودة على التعامل مع المأزق الحالي
لكن في المقابل فإن خبيراً اقتصادياً أشار إلى أن حرب السودان أثرت بالفعل على أسعار اللحوم، وستكون لها تأثيرات سلبية للغاية مع قرب عيد الأضحى، موضحاً لـ"عربي بوست" أن التبادل التجاري بين البلدين يتصدره توريد اللحوم إلى مصر بنسبة 60%، كما أنه لا بديل عن السودان كمصدر أساسي للحوم الموردة إلى مصر، في ظل تمتع البلد المجاور بوجود طاقة إنتاجية من المواشي تصل إلى 18 مليون رأس بقر.
ولفت إلى أن قدرة الحكومة على التعامل مع المأزق الحالي تبدو محدودة في ظل الانكماش الذي حدث مؤخراً في سوق المواشي المصرية وإغلاق عدد كبير من المراعي الطبيعية مع استمرار الخسائر، التي تسبب فيها ارتفاع أسعار الأعلاف وعدم توفرها بشكل منتظم خلال العام الماضي، مشيراً إلى أن تلك الأجواء تساعد كبار التجار على السيطرة على السوق بعد خروج صغار المربين، ومن ثم وجود عمليات احتكارية لإنتاج واستيراد اللحوم في مصر ستقود بالتبعية إلى ارتفاع أسعارها.
وفقاً لأحدث بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، تراجعت واردات مصر من الأبقار والجواميس الحية واللحوم إلى 185.6 مليون دولار خلال يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط من العام الجاري، مقابل 386.1 مليون دولار خلال نفس الشهرين من العام الماضي.
وفي عام 2022 تراجع حجم واردات مصر من الأبقار والجواميس الحية من 283.5 مليون دولار خلال عام 2021 إلى 118.9 مليون دولار العام الماضي، في المقابل ارتفعت واردات اللحوم من 1.36 مليار دولار خلال 2021 إلى 1.5 مليار دولار خلال 2022.
وكشفت بيانات الهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات، حول التبادل التجاري بين مصر وقارة إفريقيا خلال الربع الأول من العام الجاري، أن السودان احتل المرتبة الثانية بقائمة أكبر 5 أسواق مستقبلة للصادرات المصرية بقيمة 226 مليون دولار.