وكُسرت شوكة الاحتلال ورُفع أذان الفجر من الأقصى منتصراً، هذه المرة الجيش الذي قال عن نفسه ذات يومٍ الجيش الذي لا يقهر، الآن -كما قُهر حينها- يُقهر، عادت الكَرة لنا ففشل العدوان على قطاع غزة، وفشل اقتحام المسجد الأقصى لعشرين يوماً وأغلق باب المغاربة في وجه المستوطنين فعادوا خائبين، حلفنا أنهم لن يمروا، ولم يمروا، وقريباً قريباً سيفشل تهجير حي الشيخ جراح، ومنها أستطيع رؤية مفاتيح القُدس تعود لأيدينا في الغد القادم بأمر الله.
في اليوم الثاني عشر بتاريخ المقاومة بعد 11 يوماً من العدوان، للمرة الأولى منذ ما يزيد عن سبعين عاماً، تُمحى بعض آثار النكبة عن جبهاتنا، العام القادم لن نقول ذكرى النكبة، بل سنقول ذكرى المقاومة، مقاومة الشعب ومقاومة الفصائل الفلسطينية، ومقاومتنا نحن أيضاً.. نحن العرب.
إن ما علمته لنا إياه هذه المقاومة غالٍ، ودفعنا ثمناً باهظاً لنتعلمه، ناهيك عن البيوت والشوارع والجدران سوف يعمرونها، لقد دفعناه دماً وخوفاً والكثير الكثير من البسمات الصغيرة والأعين البريئة التي ذهبت عنّا، فمن يعيد لأجسادهم الصغيرة الدماء؟ ومن يعيد للجدران الجديدة الذكريات؟
لقد ذكرنا العدوان هذه المرة بمُتعة أن تكون عربياً، ذكرنا بمعنى أن تكون صاحب قضية، بات الوطن العربي كله يعرف بعضه البعض من أقصى الشرق لأقصى الغرب، حتى إن مواطني العالم الغربي ولأول مرة يساندون العالم العربي في قضاياه، تعلمنا من نحن وما وجهتنا، أو بالأحرى تذكرنا، بعد أن ألهتنا الحياة بالفنون الهابطة والمترفات الكثيرة التافهة، لا يمكنني الجزم هل المترفات تافهة أم أن العالم قد صغر في عيني من بعد ما رأت، تعلمنا وإن عُدنا بعدما علمنا إنا إذا لمن الظالمين.
لقد أشعرنا التكاتف الذي رأيناه جميعاً بـ"العزوة" العربية، لا أظن أن طعم العروبة قد يُنسى بعد، ولا أظن أن فرحة النصر قد تُنسى بعد، لا أظن أننا -نحن العرب والمسلمين- قد نتفارق بعدما تشابكنا، بل إني موقنة بأن الجمع على أرضنا -إن شاء الله- قريب جداً.
لقد ربحنا هذه الجولة من معركة التحرير، ولكن هذا لا يعني النصر، ليس بعد، مازالت قضايانا ملتهبة، لا ترتاح أفئدتنا أو نطمئن الآن، ولكن البشرى في الأمر أن المياه بدأت تندفع نحو مجراها الصحيح وتتكدس فوق السد الهش وإني أراه قد وهن، وإني أراه يهتز من شدتنا، وإن والله زواله لقريب.
واجبنا الآن بأن نذكر بعضنا دوماً، فلسطين ليست موجة تأتي وتذهب، فلسطين الثابتة ونحن الذاهبون، لا تتوقف عن الدعم، علم أبناءك، اذكر لهم مجدهم، أسس في قلوبهم بذور القضية وفي صدورهم شغف الانتصار، جاهد واستمر في مجاهدة نفسك على الطاعات وترك الذنوب، لأننا يا صديقي نذنب نحن هُنا، فيُحصرون هم هناك، معادلة متزنة إن زدت هنا زاد هناك وإن نقصت نقص، قاطع عدوك بكل السبل.. لا تُحول نفسك إلى مستأجر لقتلة أخيك، لا تجعل من أموالك زناداً يُطلق به النيران على رأس الأطفال، ضيق عليهم الأرض بما رحُبت كلما استطعت، ولك في هذا أجور كثيرة لا نحصيها عدداً.
وإليك يا بُني الحبيب في المستقبل القريب، فإني قد لا أعهدك أو لا أعهد رؤيتك تنتصر، نعم يا ولدي، لقد كنا مفتونين، تخاذلنا سنواتٍ عدة وتركنا قضيتنا مُعلقة، بل إنهم كل يومٍ كانوا يزدادون جُرماً يا صغيري ونحن نغُط في سُباتٍ عميق، ينتهكون أرضنا وعرضنا ويقتلون أهلنا ويدنسون بدنسهم مقدساتنا بينما كنا نحن نلهو ونلعب، فتعلم يا بُني ولا تنسَ مثلنا مَن أنت، لا تنسَ أن كل من أُريقت دماؤه هو عمك أو خالك، لا تنسَ أن كل امرأة تبكي صغارها الآن قد تكون خالتك أو أمك، لا تنسَ أن كل فتاة يعتدون عليها هي أخت لك، رجُلٌ أنت يا حبيبي، والرجال لا يصمتون عن الحقوق، فلن تترك قضيتك، ولن تتخاذل أبداً.
وإليكِ يا غزة، يا مصنع الرجال ومصدر عزتنا، إليكِ وأعلم أنه ليس بحالٍ أراسلكِ فيه ولكن عسى كلامي يعزينا -نحن وأنتِ- أردت أن تعلمي أننا نراكِ، لا نتغاضى عن الخراب الذي حل بك والشوك الذي زُرِع في قلبك العزيز، لم تكن تلك مجرد مشاهد نشاهدها عبر الهواتف والشاشات نعلم أنها واقع تعايشينهُ وأهلك الآن، فأنتِ لستِ مجرد مدينة بالنسبة لنا، نعم لقد كُنا عاجزين أن نردع عنك القذائف، نعم رأينا مبانيك ومساجدك وأبناءك تحت حمم بركانية ولم نأتكِ، نعلم أننا مبتورو الأطراف لم نستطع الحراك، ولكن عزاءنا أنكِ انتصرتِ لنا وللعالم أجمع يا حبيبة، وأننا تعلمنا منك الصبر، بل إنا كنا نستمد منك الصمود، وإنك ربيت رجالاً ونعم الرجال، وإننا في طريقنا إليكِ لا نعلم متى نصل لكن وجهتنا إليكِ الآن، نأتيكِ كما قالت فيروز "سندُكُّ ندُكُّ الأسوارَ نستلهم ذات الغار ونعيد إلى الدارِ الدارَ نمحو بالنارِ النار".
وإليك فلسطين، من الضفة للضفة، يا عزة العرب ورفعتهم، إننا لا ننساكِ، وصدقاً قد سئم الكلام منا وباتت الأفعال الآن تناشدنا، سلاماً حتى نترك الحديث ونفعل، سلاماً حتى نُكاتف أهلك الصفوف الأولى، سلاماً يا أرض السلام واستشهد فيكِ السلام.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.