بالأمس القريب قامت الثورات محررة، فسقطت عنا الملكية، وسقط معها كذلك الإنجليز، ولكننا لم ننسَ ثأرنا، واستيطان الأراضي المقدسة، ووعد من لا يملك لمن لا يستحق، وجاؤوا بهم لأراضينا العربية لفيفاً، وبدأت حرب فلسطين، وهبت لها الجيوش العربية، وبعدها استوطنوا أراضينا، وزعموا أن هذا وطنهم كمن يكذب ويصدق كذبته، ومرت سنوات قليلة وبدأ العدوان الثلاثي على مصر، استهدفوا أراضينا ثأراً منا وحقداً أننا شرفاء، ندافع عن عروبتنا، وديننا، ودمنا، وأهلنا، وقدسنا… الحكاية معروفة، وسطور يسطرها التاريخ دون روح.
هناك في الصحراء كان ثلاثة محاربين مصريين: محمد، وإبراهيم، وفؤاد، الحماس وقتها، وشعلة الأمل، والخوف من أن تفقد أو تُفقد، والاستعداد للفتك بالعدو، ولكن هيهات لغدر بني صهيون هيهات.
أُحصِروا ثلاثتهم بالقذائف، كانت من فوقهم كالحمم، حاولوا الفرار، حاولوا الدفاع، ولكن مات فؤاد، راح شهيداً دون أرضه، دون عرضه، دون دمه، ودون ماله، ونجا إبراهيم، أما محمد فبُترت كف يده جراء شظايا القذائف، وأصيبت قدمه بجروح غائرة، تكاد أن ترى عظامه من عمق الإصابة، تخيل أن شاباً لم يتجاوز الثلاثين من عمره، محارب يقضي عمره كله بنيران الانتقام في صدره، لهيب وانفجار يدويان في قلبه كلما نظر إلى نفسه وذكر المشاهد المقطعة التي تعذبه ذاكرته بها، كل هذا بيدٍ كفّها مبتورة، لن تستطيع الأخذ بثأرها.
عجّلوا بزواجه، ظنوا أنه هكذا قد يفرح ويتناسى ثأره، ظنوا أنه قد ينهمك، ولكن كيف وإصابته تحيطه أينما ذهب، كيف وكلما أغلق عينيه يتذكر فؤاد، يتذكر الدماء فوق الرمال، يتذكر صوت القذائف ورائحة الرماد، لم يستطع التجاوز أبداً، ولكنه قد عاش.
تزوجته زينب التي أحبته منذ نعومة أظافرها، ابنة خاله الوادعة الجميلة، وكانت سلواه حتى رزقهما الله بالأبناء، وعاش وكبر الأبناء جميعاً، المحاسب والمهندس والضابط، ورأى محمد أول أحفاده، ومن ثم مات، مات وفي كبده حُرقة الثأر، الذي لم يستطع إلا رؤية نصر أكتوبر عام 1973م، حينما استرددنا سيناء الحبيبة، أما ثأره هو فلم ينله.
بعد ثلاثة أعوام من وفاته وُلدت له حفيدة، لم تره، لم تعهد كرمه، لم تستطع استنشاق رائحة عناقه بين حنايا أضلعها، ولم تعرف عنه إلا أنه محمد، وصورة كبيرة في غرفة الجدة زينب، وحديثاً بين الفينة والأخرى يذكرون فيه حكاياته كلها، التي لم يتبين منها أبداً أن كفه كانت بها علة، قيادته من القاهرة لدمنهور، تصليحه لجميع أجهزة بيت العائلة، كتابته، حتى استخدامه لماكينة زينب لحياكة فستان أو بدلة لأبنائه، كل هذا لم تكن تتخيل أنه يقوم به بيد واحدة.
لم تعرف عن حكايته ليس لأنهم كانوا يخفون، بل لأنهم كانوا لا يعلمون الكثير، لم يحب الكلام عن هذا اليوم، لم يكن يقص عليهم إلا تدريبات الجيش واستعدادهم للحرب، أما تلك الساعات فلم يستطع ذكرها، ولم يضغط عليه أحد ليحكي.
كبرت تلك الحفيدة، وعندما فتحت عينيها على العالم فتحت على استشهاد محمد الدُّرة، فتحت عينيها على أغاني الربيع العربي ووحدته، كان حادث الدرة ينشب في صدرها الغضب والحزن، وكان أوبريت الحلم العربي يدُك قلبها بالحماسة.
كبرت وقرأت الكثير، تعلمت عن القضايا العربية، عاصرت هي وجيلها الثورات المصرية والسورية والتونسية، وكان عمرها لم يتجاوز اثني عشر عاماً، تأثروا بهم جميعاً، غضبوا لغضب الثوار، وفرحوا بانتصارهم، وفي كل عام مع كل حدث في القدس وغزة كان داخلها شيء يلتهب، لا ينطفئ بعد ذلك إلا بالأغاني والأماني والألعاب، ووقوفها أمام صورة محمد الجد تقص عليه الأخبار وتحكي له الحكايات، كانت فلسطين عندها تتمثل في القدس وغزة، وبعد ذلك عرفت رام الله، وبعدها صادفتها صور لحيفا ويافا وجنين وبيسان والضفة، وكم تذكر تعلقها بصور يافا وجمالها، كم أنها كانت ترى الانسجام والتناغم بين ملامح الفلسطينيين والبيوت، التجاعيد في بشرة السيدة العجوز هي نفسها في جدران البلدة القديمة، وخشونة يد الشيوخ تشبه تلك في شوارع الضفة، وأمان نفوس الناس وإيمان أطفالهم يشبهون هذا الذي في المسجد الأقصى. كيف لا تكون أرضهم وديارهم وكل شيء في الأرض يشير إليهم؟!
ها هي الطفلة كبرت وصارت فتاة، صارت تكتب عن محمد الجد، الذي تصادفت بحقيقة الفخر الذي كان عليها دوماً أن تتغنى به، ها هي تكتب إليك يا حبيبي وعنك، تكتب ونحن على شفا حفرة من الثأر، ها نحن ذا نَقصف كما نُقصف، نرد، نردعهم ونُسكنهم الملاجئ ويفرون أمامنا فراراً، ها هي اللحظة التي تنتظرها قد اقتربت.
يقولون إن الشعلة تختار من تنتقل إليه، وكنت أحسب أن ثورتي وغضبي وعدم صمتي عن الحق سببه ما نشأت عليه ورأيته فقط، كنت أظن أن ارتباطي بفلسطين هو كونها قضية حق، وكونها إنسانية، وكونها عربية إسلامية، وكونها جميلة كما لا جميلة غيرها، ولكني الآن أكاد أرى حقيقةً أخرى خلفها، أكاد أرى الشعلة التي تركها مُحمد داخلي، وها هي صورته الكبيرة تنتقل لمنزلي بعد رحيل زينب، الآن ازدادت النيران نيراناً، نيران الثأر.
وبعد.. بِتُّ أفهم أهل فلسطين جيداً، فالحقيقة أن لكل منهم محمد ولكل منهم فؤاد، كلما بعدت الأجيال عن ذكرى النكبة يظن المحتل أن الأبناء قد تنسى، ولكن بأسهم يزداد شدة، إن شرارات الأجداد تتوارث داخلهم، تزاحم صدورهم وتتصارع على الخروج منذ أول يوم للاحتلال حتى انتفاضتنا الثالثة اليوم، انتفاضة عام 2021، وآن للنكبة بها ألّا تستمر.
إننا مسلمون عرب، وأياً كانت جنسياتنا هذه هويتنا، وهذا عِرقنا ونسبنا، ولكن حينما يتعلق الأمر بفلسطين تجد ألسنتنا فلسطينيةً، وصوتنا فلسطينياً، وقلوبنا تضخ فلسطينَ… فلله دُرنا، ولله دُر فلسطين وأهلها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.