فكرة: هل يُمكن فعلاً العيش بالقليل؟ الجواب هو نعم. في الآونة الأخيرة جالت برأسي عدة أفكار، خاصة عندما عاينت بنفسي السباق المحموم للتزود بالمواد الغذائية أثناء الأزمة الصحية الحالية المنتشرة في كل بقاع العالم تقريباً. هذه المناسبة حفزتني لأكتب عن أسلوب حياة أتبعه منذ عدة سنوات لعل البعض يستفيد من الأفكار التي سأطرحها.
العنوان العام لهذه الأفكار هو تقليل الاستهلاك للتخلص من منظومة الاستهلاك. صار من البديهي عند الأغلبية الساحقة أن تمتلئ ثلاجتهم بأنواع العصائر والمشروبات الغازية أو الأخرى الجاهزة. لقد صار من الصعب على الكثيرين الاكتفاء بعدد محدود من المشروبات. فهل هذا الأمر هو صعب حقاً؟ أم إنها مجموعة من السلوكيات الاجتماعية تعني مخالفتها الخروج عن عقلية القطيع؟ أنا شخصياً لا أعتقد أن أجدادنا شعروا يوماً بالحاجة إلى شرب الكوكا أو الفانتا أو عصير محلى. كانت المشروبات تتكون أساساً من الماء والشاي والقهوة. وكانوا حقاً سعداء بذلك. قررت منذ سنوات أن أسلك هذه الطريق ووجدتها فعلاً مريحة: راحة للصحة، للجيب وتقلل من عبء حمل المشتريات آخر الأسبوع. الأهم من هذا أنها كانت من أهم الخطوات في تغيير أسلوب حياتي، حيث شكلت خطوة البداية في طريق الاكتفاء بالقليل أو كما يحلو لي أن أسميه العيش على طريقة الأجداد. أحياناً أقوم في البيت بعصر البرتقال أو أي فاكهة أخرى رغم أن البحوث الطبية أثبتت أن تناولها كفاكهة هو أنفع لجسم الإنسان. ولكن على سبيل التغيير أحب أن أقوم بعصر بعض الفواكه دون إضافة سكر أو أية محليات أخرى. منذ أكثر من عشر سنوات لم أشتر علبة عصير واحدة أو مشروباً غازياً أو أي مشروب آخر عدا المياه. بهذه الخطوة أسديت معروفاً لصحتي وشعرت بفرق إيجابي في جيبي، فهل يُعقل أن أصرف المال لأسحب من رصيد صحتي؟ والنقطة التي شدتني أن قدرتي على خفض وزني والتحكم فيه صارت أفضل بهذه الطريقة.
أما فيما يخص المواد الغذائية فأنا لا أذهب إلى السوبر ماركت إلا ومعي قائمة بما أحتاج إليه فعلاً. وفي المواد الغذائية لا يجب على المرء أن يوفر إطلاقاً، فالاهتمام هنا يكون بالجودة، فلا أشتري إلا الخضر والغلال العضوية أو المنتوجات المحلية التي يكون مصدرها معروفاً وموثوقاً. إن الاهتمام بهذه الناحية يزداد لمن لديه طفل أو أطفال، فأنا أفعل هذا بالدرجة الأولى لأني مسؤولة عن صحة طفلي وجسم الإنسان يتأثر في أولى سنوات حياته بما يأكله. كما أن العادات الغذائية التي يكتسبها الطفل في السنين الأولى تترك بصمتها على كامل مراحل نموه اللاحقة. وهنا يجب أن نولي اهتماماً كبيراً بما نقدمه لأطفالنا وألا نوفر على حساب الجودة.
كما قلت آنفاً كانت تلك خطوة أولى تبعتها خطوات أخرى مثل التقليل من استخدام المواد الكيميائية كمواد التنظيف واستبدالها بأخرى طبيعية مثل الليمون والخل والملح، التقليل من المواعين، الأثاث… آااه ما أحلى الفراغ! الفراغ في البيت وغرفه يسمح للطاقة أن تجول في أنحائه كما يسمح للأفكار أن تجول في رأسي. إن عادة رص الأثاث وملئ البيت به، هي عادة سيئة لا يفوقها سوءاً إلا رص قطع الزينة التي لا فائدة من ورائها، يريد بها الناس تزيين مجالسهم وما هي في حقيقة الأمر إلا فوضى وضوضاء بصرية تشوش الأفكار وتؤذي الصفاء الروحي ولكم في فراغ المساجد أعظم مثال لسكينة النفس، حيث تتجلى هيبة الفراغ. وكذلك كانت البيوت العربية القديمة تعتمد البساطة والنظام والنظافة. قم برمي كل قطع الزينة التي لا فائدة من ورائها. لقد فعلت ذلك وأحسست بالراحة فلم أحتفظ إلا بكرة أرضية تعلم ولدي الجغرافيا، صندوق جاءني هدية من صديقة عزيزة على قلبي. يعكس هذا الصندوق الفن العربي التقليدي في الزخرفة وأحتفظ فيه ببعض الأشياء المهمة، فانوس شرقي أقوم أحياناً بإطفاء الضوء وإشعال شمعة داخله لإضفاء المزيد من السكون، وقارورة صغيرة تفوح منها رائحة العود الزكية فينتشر عبقها في أرجاء الغرفة، ساعة حائطية لمعرفة الوقت، مرآة تتكون من عدة مرايا صغيرة توحي بمزيد من الاتساع والضوء في المكان، وأخيراً مزهرية من الكريستال لوضع الأزهار. هذه فقط قطع الزينة التي قررت الاحتفاظ بها في غرفة الجلوس وراعيت فيها الجودة على حساب الكم. لست نادمة على رمي القطع التي قررت أن وجودها لا يؤدي أية وظيفة مفيدة.
إن الاكتفاء بالقليل يجعلك تركز على ما هو فقط مفيد وذو قيمة، والاستغناء فن يتعلمه المرء خطوة بخطوة حتى يصل به إلى مجال العلاقات الشخصية والاجتماعية. هذه الأفكار التي طرحتها نابعة من تجربة شخصية فإن لم تعجب البعض أو ربما الكثيرين فقد يستفيد منها البعض الآخر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.