تستيقظ صباحاً فتجد نفسك في غرفة نوم فنان مشهور، ثم حمام بلوغر وهي تضع المكياج أمام مرآة تساوي نصف راتبك الشهري، ثم مشهور على التيك توك يأخذك جولة في سيارته، ويضع إصبعك "لايك" على هدية زواج أحدهم إلى زوجته، وتأتي إحداهن ترتدي فستاناً أنيقاً وتشرح لك سر جمال بشرتها وكيف أصبحت هكذا بعد استخدام منتجها الجديد التي تدعوك لأن تشتريه وتستخدمه.
لحظة.. ألم تتعب من المشاهدة؟ عُد إلى واقعك، إلى غرفتك ذات الدهان القديم وملابسك التي اشتريتها العيد السابق، وتتناول فطورك مسرعاً حتى تجد حافلةً تنقلك إلى عملك، وفي الطريق تحسب ما ادخرت لتجمع ثمن سيارة بسيطة أو شقة عادية.
حقاً قد أصبح الكوكب اليوم قرية صغيرة، بكبسة زر تطل على مطبخ شخص لا تعرفه، وتقرأ مقاس تيشرت إحداهن وتعرف وزنها ولون مانيكرها، تُحدث الصفحة الرئيسية على حساب الإنستغرام فتعرف أين يتمرن فلان وكم كيلو خسر بسبب مدربه المعروف وماركة حذائه الرياضي.
هل شعرت ولو لمرة بالغيرة تجاه أحد تتابعه؟ أو تمنيت ما لديه مما يعرضه لك؟ هل حاولت أن تعرف ما هي طبيعة عمله التي أوصلته لهذا المستوى البراق من المعيشة؟ هل بحثتِ عن حساب زوجها الذي يبعث لها الورد والهدايا التي تصورها كل يوم على حسابها؟ هل ادخرت مصروفك من أجل تجربة المنتج الذي قالت عنه راقصة التيك توك أنه سبب جمال خصرها؟
ما فعلته السوشيال ميديا في جانب آخر أنها أعطت فرصة للمراقبة والمقارنة وعدم الرضا؛ ترى المراهقات يتابعن مشهورات من أجل تعلم وضع المكياج ومحاولة الظهور كمظهرها، علماً بأن هذه المشهورة تعيش في أوروبا ومن تتابعها تعيش في حارة ضيقة تخضع لعادات وتقاليد معينة. مراهقون لم تنمُ أذرعهم بعد يحاولون التدرب على رفع الأثقال لتربية عضل مثل اللاعب المشهور على الإنستغرام؛ إحداهن تُخرج كل ما في الثلاجة من أجل تصوير فطور صباحي يستحق الكثير من التعليقات واللايكات، أحدهم يمسك صورة ممثلة ويقول لزوجته "هكذا النسوان يا بلا، شوفي وجهها وجسمها".
وفي خضم هذه الحرب النفسية واليومية، بل اللحظية -بما أن الهاتف لا يُترك من معظم الأيدي- يتحول الكثير من متصفح عادي إلى لاهث خلف المعاينة والمقارنة لدرجة الحزن والاكتئاب: لماذا لا أملك مثله؟ لماذا لستُ سعيدة كهذه؟ لماذا زوجي ليس بهذا الحنان؟ ولماذا زوجتي ليست بهذا الجمال؟ وهكذا حتى ينفصل الإنسان عن واقعه ويصبح فجأة كارهاً لنعمه مستصغراً كل ما حوله، غاضباً، ساخطاً يفتح فاهه للهواء!
لكن قبل أن تدخل دوامة المقارنة؟ هل فكرت يوماً بالزاوية التي لا تظهرها كاميرا هذا المغني؟ هل فكرت بالساعات التي لا تصور بها هذه البلوغر؟ هل فكرت بما يخفيه من أمور وأحزان ومصائب وعلاقات فاشلة عن المتابعين؟ طبعاً لا، فأنت تظن أن حياته كلها ما يعرضه لك وتسنى أنه يعرض ما يريد هو أن تراه فقط! فهؤلاء أيضاً بشر يصابون بالحزن والخذلان والمرض، حتى إن هناك دراسات عن الاكتئاب وعلاقته بالشهرة ومنها دراسة نشرها جورنال أوف فينومينولوجيكال سايكولوجي أن الشهرة التي تجلب المال وخلود الذكر والتميز عن الناس غالباً ما يكون له ثمن على مستوى الصحة النفسية، وأن صورة الشخص المشهور قد تختلف تماماً عن الصورة الحقيقة البعيدة عن الأضواء.
بعد زمن من متابعة الحسابات البرّاقة من سفر ومساحيق تجميل وألبسة ومشاهير، ستكتشف أن تركيزك صار موجهاً لهذه الاهتمامات -وهو ليس بالشيء السيئ- لكن حين تعود لواقعك وخياراتك الملموسة والممكنة ستشعر بالأسى بين الفجوة التي تعيشها والتي تريدها، وما تنساه أحياناً أن هؤلاء يعرضون فقط أفضل الموجود عندهم، وليس كل شيء، لا أحد سيعرض خيباته، لا أحد يعرض ديونه، لا أحد سيعرض بشرته المتعبة أو بطنه المترهل، لا أحد يعرض عائلته المهملة، لا أحد يعرض رسوبه في الامتحان، هم يعرضون ما يريدون أن تعرفه ويسوقون له، لذا لا تجعل من اهتمامك سلعة يشترونها، ولا تُحقّر واقعك ونفسك فالصورة ليست كاملة، وخلف الكواليس يوجد الكثير من النقص وبشرية الإنسان غير الكاملة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.