ريبة تغزو أنحاء صدري، سائق الأجرة بعدما كان يناديني بـ"يا حبيبي" أو "يا كابتن" صار اللقب "يا أستاذ" أو "يا باشا" دون سابق إنذار.
في يوم عابر مثل ذلك الذي أكتب فيه هذا الكلام كان هناك أطفال يلعبون الكرة في ملعب النادي، مكاني المفضل منذ زمن ظننته ليس ببعيد، في لحظة عبوري اعتلت كُرتهم سور الملعب وسقطت أمامي، رأيت صورتي وأنا أقفز مهرولاً من فوق ذلك السور كي أنقذ كرتي قبل أن تسرقها مجموعة الأشرار الطامعة في الخارج، ظننت طفلاً منهم سيفعل ذلك تماماً على اعتبار أنني غريب من الأشرار!
حتى وجدت أحدهم يناديني بطمأنينة كاملة: "عمو عمو ممكن ترميلنا الكورة".. ففهمت وقتها الحقيقة التي أبيت تصديقها، فهمت حقيقة أنني صرت تماماً خارج اللعبة.
كثيراً ما أسأل نفسي: هل انتهى دوري كطفل هكذا إلى الأبد؟ هل فرصتي كمراهق لن تتكرر مجدداً؟
ربما كان الشعور الأصعب على الإطلاق هو شعور الكبر المفاجئ، شعور أن تصبح أنت من الكبار دون أي خيار آخر، أنت الذي يجب أن تتصرف، أنت الذي يجب أن تضم الشتات وتلملم الفتات وتمسح الأدمع وتطمئن الروع وتمتص الغضب وتوجه الدفة وتهدي القلوب وتنير الظلام.
شعور يجعلك تتأمل كيف فعلها معك في الماضي هؤلاء الأبطال الكبار في عينك وقتها، الصغيرة قلوبهم -مثلك الآن- في واقع الأمر؟ شعور يجعلك تود أن تصبح صغيراً يوماً واحداً فقط، يوماً واحداً لتتذكر كيف كانوا يتصرفون، أو لتهرب في ثنايا الزمن لتعود حيث كنت يوماً أو حيث تتمنى الآن أن تكون.
شعور يجعلك تدرك أن لكل شيء نهاية محتومة بداية من عرائسك القطنية القديمة وتختتك التي حفرت عليها اسمك في المدرسة وجدران بيتك القديم، وخرقة والديك الكاذبة، ويوم الجمعة ورائحة طعام جدتك في يوم الجمعة، والأمان في يد جدك من نظرات الباعة الأشرار، ورحلاتك المثيرة معه في طرقه المختصرة التي ظننتها في عالم بعيد آخر، رغم كونها فقط في شوارع الجوار.
ماذا يسعنا أن نفعل والعمر يمضي؟ في واقع الأمر لا أعلم هل مقالي هذا حنين أم أنه صرخة أنين من ذلك الطفل الذي يسكن بداخلي؟ محاولة بائسة منه كي يهرب من أعماقي السحيقة ويطفو على وجه الحقيقة من جديد، لكن علي أي حال أعتقد نحن الكبار ليس علينا أن نسأل متى أو كيف كبرنا، فقط فلننظر إلى وجوهنا ونتأمل، مجرد التأمل سيخبرنا بكل شيء.
انظر الآن وأخبرني، ماذا تتذكر؟
أتذكر طفل البارحة صاحب الوجه السمين وخفة الحضور في إلقاء الكلام؟
أتذكر ذلك المراهق مرموق العلام، ممشوق القوام؟
أتذكر ذلك الرجل النبيل الذي صدم عند اكتشاف أول شعرة في وجهه بلون الرماد تعكر سماء روحه كغلام؟
كان واجباً أن يكون لكل منهم جنازة ومقام.
فكلهم ماتوا عندما ماتت الأحلام عاماً بعد عام.
وعلى ذكر التذكر، أتذكر أنهم أخبرونا صغاراً بوجوب التوقف عن البكاء حتى نصبح رجالاً، وتوقفنا وصرنا رجالاً، والآن هل إذا عدنا للبكاء الآن سنغدو صغاراً؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.