عزيزي بوتون.. عبثية الحياة تقتلني لا شيء ذا فائدة ولا شيء ذا ثقل، كل الأمور فارغة من مضمونها، مثقلة بترهات أخرى، كل اللحظات بلا معنى، وحده الفراغ هو أُنسي الدائم وصديقي الوفي.
لا شيء هنا سوى صوت الهواء يعزف سيمفونية العدم، كل ما أفكر فيه هو الموت، طعمه، رائحته، لحظته الأولى والأخيرة بالنسبة للحياة، بابه السري حين يفتح ويغلق خلفي، ضجيج العزاء إن كنت سأسمعه، وضمة الأرض لجسدي حين أُدفن.
لا شيء يعزو تفكيري سوى رائحة النهاية، ولا شيء يفزعني إلا وحدة الرحيل بلا رفقة، رغم أني أعيش حياة الفراق الدائم والغياب المستمر، فإن قلبي ما زال يرفض التأقلم مع كل ذلك.
ما زال يحلم المسكين بيوم اللقاء حين تغزو الأعين فيضانات الفرح المبتهج فتغرق القلب في بحر من لهب المشاعر. ما زلت أحلم بأحاديث طويلة غير منتهية حين أسمع الكلمات بعيني لا بأذني كأنني أقرأ شفتيه قبل أن تنطقا.
لكن ذلك لم يحدث ولن يحدث!
ظلت الأحاديث محض أمنية بعيدة تؤرق جسدي في ليالي الشتاء الطويلة توقظه ككابوس لا يهدأ يكرر دوماً حضوره. أبشع الأحلام تلك التي إن تحققت فاقت الكوابيس في حقيقتها.
أتعلم لو أني امتلكت آلة زمن يوماً، لانطلقت للأمام ليوم وفاتي، لسارعت الزمن لأصل إلى لحظة النهاية، حين أفقد روحي تلك التي تؤرقني، وأي أرق أسوأ من أن تعيش بفرحة الطفل، وغبطته، وبغبائه، وقلة حيلته 24 ساعة في اليوم!
تقترف نفس الأخطاء؛ لأنك وبكل بساطة تأمل الكثير وتعتقد من فرطة السذاجة قدرتك على التغيير.. كم مرة تُحدث نفسك بجدوى المحاولة وبقدرة الحب على إصلاح الأحوال؟ كم مرة تنكر دلالات الفشل وتمني نفسك بنجاح منتظر؟
كم مرة تصم أذنيك عن حقيقة أن بعض الجراح لا تلتئم، وأن نزفها المستمر يغرق الطبيب المداوي قبل مريضها، وأنها مهما بدت بسيطة فهي عميقة كثقب أسود يبتلع عالم الأحياء وما شبع؟!
فأين لك بقوة لتواجه كل هذا وأنت مهما خبرت الحياة مازلت ساذجاً كطفل لم يعش!
أوووه.. كيف كشفت مكنون نفسي أمامك بكل تلك السهولة؟ وأي غباء أوقعني في سرد الحقيقة المجردة بكل هذه البساطة؟ لربما إن كنت كتبت الأسطر السابقة لـ(سينكا) بكل ما يملك من واقعية عن مفهوم السعادة لكن وقع رده أيسر عليَّ مما قد أسمعه منك.
أنت أكثر من يعلم أن رد سينكا سيحمل الكثير من التهوين المبني على حقيقة واحدة أن أصل هذه الحياة هو الفقد وأنها في الأساس غير عادلة، وأنها مقززة بشكل يفوق تناول ضفدع على الإفطار! نقلت ذلك يا ألن في إحدى محاضراتك.
توقعي لرده يخفف وطأة ألفاظه، لكني لا أريد أن أسمع ذلك منك، رغم معرفتي السابقة بما ستقول حول أن السبب الرئيسي للشقاء البشري هو (عظمة الأمل)، فإني سأمنّي نفسي برد آخر.
أعلم أن عليَّ أن أوقن بأن إيماننا بعدالة الحياة أكثر ما يؤذي قلوبنا ويدميها، كأطفال ندرس درسنا جيداً، نذهب في موعدنا للمدرسة لا نقوم بشيء يؤذي الآخرين فنحصل في نهاية اليوم على قطعة حلوى، لكن عالم الكبار مفزع لا وجود فيه للعدل ولا للعاقبة المستحقة من البشر، كل شيء يسير هنا بشكل غير متوقع، لنكن أكثر تحديداً ولنقُل إنه متوقع طبقاً لمرات تكراره تاريخياً، لكننا نعمي أعيننا عن ذلك النمط التعيس.
التاريخ البشري المليء بكثير من الآلام المتصلة دون انتهاء، أمم كاملة سُحقت ماتت دون أثر أو رثاء، عوالم هدمت فوق رؤوس أصحابها ومقابر أقيمت دون شاهد!
الكوارث تحدث، الزلازل تحدث، والبراكين تثور، كل السوء غير المتوقع مكرر سواء على الصعيد الفردي أو الجماعي، لذا من أين أتينا بكل هذا الأمل؟
لأكون أكثر صدقاً وأتحدث عن نفسي لربما كنت أخدع نفسي كثيراً وأستتر خلف البحث عن عيب الفعل المؤدي للمصيبة، أي أنني وبكل بساطة أرى كارثة الآخرين وأربطها برباط شرطي، بمسبب ما حتى وإن كان غير ظاهر وقتها لأصحاب الكارثة.
هذا أمر صدقني مريح للغاية يُعلي لديَّ درجة عدالة الحياة، ويضمن لي وبشكل شخصي أني إن تجنبت مسببات الكوارث لن تنزل بي نازلة.
ويحيي أي سطحية تلك!
من قال إن كل أحداث الحياة مبررة؟
هنالك ما لا يمكن تفسيره، هنالك تلك النوازل القواسم التي تأتي فجأة على غير موعد، تلك التي تجعل عقلك يغلي من الغضب، ويتساءل لمَ أنا؟ وأين الخطأ؟
لا إجابة.. وحده الصمت يسكن الألسنة.
الحقيقة هي أن السؤال هو الخطأ، أنك لست وحدك، لك شركاء كثر، الأمر مكرر، كل ما في الأمر أنك الآن كبرت، بتَّ تدرك أنه لا رابط بين ورعك الديني وسواء حياتك مع البشر، أو بين سعيك العلمي ودرجتك الوظيفية، لا رابط كائناً بين تفانيك كزوج أو زوجة وصلاح بيتك. هنالك ألف ألف معطى آخر غير أفعالك في المعادلة، بعض المعطيات قد تعرفها يوماً وأخرى لا تملك حتى قدرة على تخيلها.
لنكن أكثر وضوحاً، ولنقُل إننا في كثير من الأحيان أضعف المعطيات القادرة على التغيير في نتيجة المعادلة، وإننا هنا نختار الصواب لإيماننا به دون انتظار مقابل. قد كبرنا أخيراً لندرك أنه وفي أحيان كثيرة ما من معلمة ستعطينا الحلوى إن درسنا هادئين أو إن كانت دراستنا تلك كافية لنجاحنا المدرسي.
قد كبرنا لنفهم أن اختياراتنا في كثير من الأحيان مبنية بالأساس على ما نؤمن به دون دوافع نستتر بها طمعاً في جائزة أو خوفاً من عقاب نازل. وحده الإيمان كشيء مجرد من أي خوف أو غاية هو الدافع، حينما ندرك ذلك وحينها فقط تفقد الحياة عبثيتها، وتسترد الأشياء قيمتها الفعلية فتتكشف الحقيقة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.