مع حلول شهر رمضان والامتناع عن العديد من متع الحياة وأهمها الطعام والشراب، يختبر الصائمون بعد انقضاء فترة من الزمن حالة من الاكتفاء والرضا الداخلي، فهل يؤثر الامتناع عن الطعام على سعادة الإنسان؟
الإجابة ببساطة: نعم، والفارق يتم على مستوى الدماغ وقدرته على ممارسة الانضباط وتحويل الامتناع عن متع الحياة إلى حالة من السكينة.
كيف؟
ثمة فرق شاسع بين مفهوم المتعة ومفهوم السعادة، فالمتعة يمكن الحصول عليها نتيجة إشباع رغبة ما أو محفز خارجي، أما السعادة فشعور داخلي.
وبينما تعتمد المتعة أحياناً على عناصر خارجية كأحداث ما، لا تعتمد السعادة عليها، إنها بكل بساطة إحساس بالهدوء الداخلي والرضا. قد يتشابه المفهومان كثيراً، ولكنها يختلفان في الغاية والوسيلة.
لتبسيط الأمور، نعدد فيما يلي أمثلة على مصادر المتعة:
يسعى معظم الناس وراء أي شيء يعتقدون أنه سيعطي تجربة حياتية أكثر إمتاعاً؛ قد تكون بعض الأمثلة الصغيرة مطاردة المال والجنس الآخر ووجبة لذيذة والتدخين والتسوق مثلاً والألعاب الإلكترونية، وصولاً إلى حد استخدام المواد الكيميائية.
أياً كان ما يمنحنا إرضاءً مؤقتاً، نجد أنفسنا على إثره بحاجة إلى المزيد منه للحفاظ على الوضع الراهن؛ وهنا بداية رحلة الإدمان.
فالإدمان بكل بساطة هو الرغبة الواعية والمتزايدة لاختبار هذا الشعور الممتع مراراً وتكراراً.
ومن المفارقات، أنه كلما طاردنا شعوراً ممتعاً كلما قل شعورنا بالرضا، وأدت الرغبة عكس غايتها، لماذا؟
لأن الإنسان بكل بساطة اعتاد عليها، وواظب على ضمان الحصول على هذه المتعة مراراً وتكراراً حتى أصبحت أكثر من اللازم.
عند هذه المرحلة، يفرض مفهوم القيمة نفسه، فكلما زادت فرصتك للحصول على ما تبتغيه كلما فقد قيمته، والأمر ينطبق على أبسط الأمور وأكبرها، من فنجان القهوة وصولاً إلى العلاقات المقربة منك، أو تلك التي باتت قريبة أكثر من اللازم!
ولكن ما الذي يسعد الناس؟
عادة ما يشعر الإنسان بالسعادة عندما يتم حل مشكلة ما، أو عندما يتلقى أخباراً جيدة، أو عندما يحقق هدفه، وحتى عندما يعيش حالة حب.
فتخيل الآن أنك لبضع لحظات تشعر بالسعادة. ما هو شعورك فعلاً أو كيف تصفه بكلمات؟
تشعر بالحرية والنعيم وكأن الشمس تشرق عليك، فلا تقلق ولا شيء يزعجك.
تشعر بحالة بهجة وسلام، كما لو أنه تم رفع العبء عن أكتافك، ولا تشعر بأي مخاوف أو شكوك، ولا تفكر فيما ستفعله لاحقاً، وكأن الزمن توقف للحظات.
لذا، فإن السعادة هي حالة من الهدوء والسلام النابع من الداخل.
7 فروق بين المتعة والسعادة
الدكتور الأمريكي روبرت لاستيغ والمتخصص في أمراض الغدد الصماء العصبية عدَّد 7 فروق رئيسية بين المتعة والسعادة في كتابه The Hacking of the American Mind أو "قرصنة العقل الأمريكي".
وشرح كيف تخلط الثقافة الأمريكية التي يتم تصديرها إلى العالم بين السعادة والمتعة، وأوضح الفرق بينهما على الشكل التالي:
1- المتعة قصيرة العمر، أما السعادة فتدوم طويلاً.
2- المتعة مادية بينما السعادة غير مادية وتبث شعوراً بالرضا.
3- المتعة تتحقق في الأخذ، بينما السعادة في العطاء.
4- يمكن تحقيق المتعة بالمواد أو الأشياء؛ ولكن لا يمكن تحقيق السعادة بالمواد.
5- المتعة ذاتية تُختبر بشكل منفرد، بينما السعادة تتحقق ضمن المجموعات ومع الآخرين.
6- أقصى درجات المتعة تؤدي إلى الإدمان، سواء كانت مواد كيميائية أو سلوكيات، وفي المقابل، لا يوجد شيء اسمه الإدمان على السعادة.
7- أخيراً والأهم من كل ذلك، ترتبط المتعة بالدوبامين، والسعادة مرتبطة بالسيروتونين.
وأوضح لاستيغ أن فهم الفرق بين هذين الناقلين العصبيين ضروري جداً للسيطرة على إحساس المتعة والسعادة، فالدوبامين الزائد الناتج عن المتعة يؤدي للإدمان، مما يؤدي إلى تآكل السعادة الحالية والمستقبلية.
بعبارات بسيطة في علم الأعصاب، فإن الدوبامين ينقص السيروتونين، وبالتالي: "كلما سعينا وراء المزيد من المتعة، زادت تعاستنا"، على حد وصف لاستيغ.
والسؤال الذي يطرح نفسه، هل يمكن التحكم بالدوبامين والسيروتونين؟
الناقلات العصبية مثل الدوبامين والسيروتونين وغيرها من عوامل التغذية العصبية هي إشارات تلعب دوراً مهماً في تكاثر الخلايا وتمايزها وبقائها ووظائف الخلايا العصبية.
ويعتقد العلماء أن تقييد السعرات الحرارية يمكن أن يساعد في صحة الجهاز العصبي من خلال التأثير على تخليق التغذية العصبية والناقلات العصبية والأيض الجذري للأكسجين.
فالدوبامين يُشار إليه على أنه الناقل العصبي "المكافئ" الذي يخبر أدمغتنا أننا نريد المزيد، كما يحصل في حالة تناول الأطفال للحلويات ومواظبتهم عليها.
أما السيروتونين فهو الناقل العصبي المسؤول عن الشعور بـ"الرضا"، والمعروف باسم هرمون السعادة، والذي يخبر أدمغتنا أننا في حالة اكتفاء؛ لكن نقصانه يؤدي إلى الاكتئاب.
تأثير الصيام على هرمون السعادة
في دراسة نشرها المركز الوطني لمعلومات التكنولوجيا الحيوية NCBI، بحث العلماء في تأثير الصيام على هذه الناقلات العصبية على مدى 29 يوماً.
وفي هذه الدراسة تم فحص السيروتونين والدوبامين وعامل التغذية العصبية المشتق من الدماغ (BDNF) وعامل نمو الأعصاب (NGF) في 29 شخصاً صاموا شهر رمضان (22 امرأة و 7 رجال في ثلاثينيات العمر).
تم قياس مستويات هذه العوامل بعد يومين من الصيام (سُميت بمجموعة التحكم)، ثم في اليومين 14 و29 من رمضان، وتبين ارتفاع مستوى السيروتونين بشكل ملحوظ.
وسُجل ارتفاع السيروتونين في اليومين الرابع عشر والتاسع والعشرين مقارنةً بمجموعة التحكم، بينما سجل اليوم التاسع والعشرون الارتفاع الأعلى.
وبينما ارتفع السيروتونين بمعدلات كبيرة، لم تكن هناك فروق بين مستويات الدوبامين لدى المتطوعين.
بل أشارت الدراسة إلى نتائج سابقة بأن السيروتونين يقلل من معدل إطلاق الخلايا العصبية التي تفرز الدوبامين وقد يؤدي إلى تثبيط الخلايا العصبية الدوبامينية.
وافترضت أنه كلما زاد إفراز السيروتونين، كلما انخفض إفراز الدوبامين، وهو ما ثبت بالفعل في اليوم 29 من صيام رمضان.
وادي السيليكون يصوم عن الدوبامين!
في سياق مشابه، وتحديداً في أغسطس/آب من العام 2019، روج أستاذ الطب النفسي في جامعة كاليفورنيا بسان فرانسيسكو كاميرون سيباه لما أسماه "صيام الدوبامين" على صفحته الشخصية على موقع LinkedIn.
وشرح منشوره الفكرة كما يلي: "إن أخذ استراحة من السلوكيات التي تؤدي إلى إطلاق كميات كبيرة من إفراز الدوبامين (خاصة بشكل متكرر) يسمح لدماغنا بالتعافي واستعادة نفسه".
وأوضح أن الفكرة وراء صيام الدوبامين هي أننا قد نحصل على الكثير من الأشياء الجيدة في اقتصاد يتمحور حول جذب الاهتمام؛ كالهواتف الذكية والتلفزيون والإنترنت وألعاب الفيديو والتسوق وغيرها.
لذا قرر العديد من مديري هذه الشركات تبني هذا "الترند الرهباني" ـ كما أطلق عليه موقع Vox الأمريكي- عبر الصيام عن الاستمتاع بما يمتعهم للحظات مثل وجبة طعام غنية أو مشاهدة أفلام جديدة أو السكر أو التدخين وغيرها.
ولعل أكبر مثال على ذلك الرئيس التنفيذي لشركة تويتر جاك دورسي، الذي يمتنع عن الطعام لساعات أو أيام في كل مرة من أجل تحسين أداءه المعرفي عبر اختيار الصيام سبيلاً لكبح الدوبامين والتحرر من شهوات المتعة قصيرة الأجل.