هناك سجل طويل للبحث في مجال المساحة الشخصية في علم النفس، توصل إلى وجود منطقة حول كل شخص يجب أن يحافظ عليها ليشعر بالارتياح في وجود الآخرين.
ومع ذلك، هناك أوقات لا يكون أمام المرء أي اختيار إلا أن يقترب "جسدياً" من الغرباء، مثل الوقوف في قطار أو حافلة مزدحمة، حيث يكون الشخص المجاور لك على بُعد بضعة سنتيمترات فقط.
ولكيلا يصبح هذا التقارب مشكلةً، عليك القيام بكل شيء ممكن لخلق نوع من الحواجز غير المرئية. أسهل طريقة لتحقيق ذلك هي تجنب أي تواصل بالأعين. تخيّل نفسك تحدق مباشرة في وجه الراكب الذي يشاركك نفس المساحة الضيقة. بالتأكيد فكرة سيئة جداً، لذا عليك النظر إلى مكان آخر، لأسفل على الأرجح، في شاشة هاتفك أو إلى أقدامك.
غزو المساحة الشخصية
وفقاً لموقع Psychology Today الأمريكي؛ بإمكان الأشخاص أيضاً أن يكونوا إقليميين جداً بشأن مساحتهم الشخصية.
ربما كنت معتاداً على الجلوس في مقعد معين في الفصل أو في الاجتماعات. وفي مرة من المرات، وصلت متأخراً دقيقة أو اثنتين، لتجد شخصاً آخر جالساً في "مقعدك".
ستقضي بقية الوقت منشغلاً بالتفكير في مدى عدم شعورك بالراحة في هذا المكان الآخر، وفي كبح مشاعرك بالسخط والانزعاج من هذا الشخص الآخر الذي يشغل مقعدك. وفي المرة التالية، ستذهب مبكراً خمس دقائق لضمان تجنب تكرار هذه التجربة.
ثمة دراسة عن المساحة الشخصية أجرتها لورا لويس وزملاؤها في جامعة نوتنغهام بإنجلترا عام 2017 على ركاب شركة طيران.
حيث تعتبر خطوط الطيران مكاناً مثالياً لدراسة شعور الأشخاص بشأن مساحاتهم الشخصية، لأن المقاعد تكون قريبة من بعضها البعض، ولا مفر من ذلك خلال مدة الرحلة، ولا يمكنك فعل الكثير لحماية نفسك من الأشخاص الذين لا يحترمون حدود مساحتك الشخصية. وبقصد التورية، أشارت لويس وزملاؤها إلى هؤلاء الأشخاص باسم "الغزاة".
عوامل الراحة النفسية
وعلى خلفية تلك الدراسة، تمكّن فريق البحث البريطاني من تلخيص 10 عوامل رئيسية تؤثر على المساحة الشخصية.
تتضمن النوع -بما في ذلك الأدوار الاجتماعية لكل نوع- والثقافة، والعمر، والتفضيلات الشخصية، والعلاقات الشخصية، والحالة الشعورية والاجتماعية، وكثافة الغرفة، والشخصية "انطوائي أم منفتح"، والمواضيع التي تتم مناقشتها، والبيئة "مغلقة أم مفتوحة، والإضاءة، والمساحة الرأسية"، والسياق.
وتوضّح لويس وفريقها أنه في الطائرة، يظهر الاهتمام بالمساحة الشخصية على هيئة الاهتمام بالاستقلالية، والسيطرة والخصوصية التي يتمتع بها الركاب ضمن حدود مقعدهم.
يمكنك التصديق على الفكرة إذا كنت من قبل قضيت معظم وقت الرحلة في محاولة التأكد من قدرتك على الوصول لمسند الذراع الخاص بمقعدك، أو في مقاومة الشعور بالضيق بسبب استلقاء الراكب في المقعد أمامك.
وبعيداً عن الراحة الجسدية، ترتبط هذه العوامل أيضاً بالراحة النفسية، أو درجة التوتر التي تشعر بها. ولدراسة العوامل التي تتنبأ بجانب الراحة النفسية، أجرى فريق البحث البريطاني استطلاعاً على عينة دولية من 199 بالغاً، تتراوح أعمارهم بين 18 إلى 70 عاماً (معظمهم بين 18 إلى 30 عاماً).
رحلات الطيران مثالاً
بدأوا بمطالبة المشاركين بالرد على العناصر المتعلقة بتفضيلاتهم للمساحة الشخصية. تضمن ذلك محاكاة بصرية لنموذجين بشريين (رجل وامرأة) يقفان على مسافة من بعضهما البعض، وتتزايد هذه المسافة من القريبة جداً إلى البعيدة نسبياً. وكان المشاركون يحددون الصورة التي يشعرون أنها تمثل مسافتهم المفضلة عن الغرباء، ومسافتهم المفضلة عن الأصدقاء.
وتضمن الجزء الآخر من الاستطلاع 4 أسئلة مفتوحة، سرد من خلالها المشاركون أشكال "غزو" مساحاتهم الشخصية على الطائرات، وشعورهم عند غزو مساحاتهم الشخصية، وماذا يفعلون ليُشعروا أنفسهم بالارتياح عند حدوث ذلك، وما هو تفسيرهم بشكل عام لمصطلح "المساحة الشخصية". وتمت صياغة الأسئلة على أساس رحلة طيران مدتها 6 ساعات.
وباستخدام صور تفضيلات المساحة الشخصية، لم تكشف نتائج المجموعة الأولى أي اختلافات في مسافات التواصل المفضلة حسب الجنسية أو العمر أو الجنس.
ولكن، كما هو متوقع، فضَّل الأشخاص أن يكونوا أقرب للأصدقاء من الغرباء. وعند الانتقال إلى الإجابات التي سرد بها المشاركون أشكال "غزو" مساحاتهم الشخصية خلال رحلة طيران، كانت هناك 3 أنماط واضحة. الأولى "غزو جسدي" للمساحة الشخصية عندما يحوم راكب آخر أو يلامس الفرد بذراعيه أو أقدامه.
مقاعد الطائرة أصغر من اللازم، أو قريبة من بعضها بحيث يكون هناك شكل آخر من أشكال التقارب الجسدي المفرط. النمط الثاني لغزو المساحة الشخصية يشمل الركاب الذين يحتكرون أو يسيطرون على تلك المساحة بمتعلقاتهم.
والنمط الثالث يتضمَّن قائمةً من "الغزو الحسيّ"؛ مثل الضوضاء، والروائح، وإهمال النظافة الشخصية، والأطعمة أو المشروبات، والاشتراك في محادثات غير مرغوبة.
قياس ردود الأفعال
الأمر المثير بشأن تلك النتائج أنها، بعيداً عن المشكلات الواضحة للتلامس الجسدي وتقارب أماكن الجلوس في الطائرات، كانت مشكلات المشاركين مع الأشكال المختلفة لـ "الغزو الحسّي" على نفس القدر من الأهمية –تقريباً- بالنسبة لهم.
ويمكنك التصديق أيضاً على هذه النتيجة عندما تتذكر جلوسك بجوار راكب غريب لا يتوقف عن الكلام أو طرح الأسئلة. وربما واجهنا جميعاً هذا النوع من التلوث السمعي عندما تكون في مكان عام وشخص على مقربة منك يتحدث بصوت مرتفع جداً في هاتفه المحمول.
إلا أنك قد تكون قادراً على الحد من هذا الاعتداء السمعي بارتداء سماعات رأس.
وذكر المشاركون في دراسة لويس وفريقها، أنهم شعروا بمجموعة من ردود الفعل السلبية، رداً على هذه الاعتداءات على مساحاتهم الشخصية، كان أبرزها الشعور بالانزعاج ثم عدم الراحة والسخط والغضب.
وإذا كانت الانتهاكات "حسيّة"، ذكر المشاركون ردود أفعال مثل الشعور بالغثيان والاشمئزاز (للروائح)، والخوف من الأماكن المغلقة، والشعور بالتلعثم والتململ. وللتغلب على تلك الانفعالات، ذكر المشاركون استخدام وسائل متنوعة للمواجهة.
الأمر المفاجئ أن عدداً من المشاركين ذكروا أنهم يواجهون المعتدي، وهي الطريقة التي قد تحدث على الطائرة أكثر من أي مكان آخر يمكنك فيه إبعاد نفسك عن الموقف. بالإضافة لذلك، ذكر المشاركون محاولتهم استعادة مساحاتهم المسروقة، مثل احتلال مسند الذراع عندما يغادر الراكب الآخر إلى دورة المياه.
وذكروا كذلك استخدام بعض الاستراتيجيات غير اللفظية، مثل التنهد أو التلميح أو الإشاحة بوجوههم. وهذه الاستراتيجيات السلبية هي الأكثر احتمالاً وتوقعاً بين الغرباء عن الأشخاص المقربين.
وأخيراً، عند تعريف مصطلح "المساحة الشخصية"، قدَّم المشاركون إجابات تدعم التعريف الأدبي لهذا المفهوم: "حدود غير مرئية تحيط بشخص يمكن كسرها من خلال الغزو المكاني أو الوعي بأفعال وسلوكيات وصفات الآخرين".
وخلاصة القول
اقترحت الدراسة البريطانية 5 نصائح للمواجهة عند حدوث مشكلات تتعلق بمساحتك الشخصية:
- كن لطيفاً مع أصدقائك. لديك حرية أكبر لغزو المساحة الشخصية للأشخاص الذين تعرفهم جيداً عن الغرباء، ولكن يجب ألا تتوقع منهم حينئذ أن يقبلوا منك الانغلاق على نفسك.
- انظر حولك. تحلَّ بالاحترام والانتباه للحدود من حولك، خاصة في المساحات المغلقة، وحيث لا يمكن الخروج بسهولة.
- واجه إذا كنت تستطيع، ولكن لا تواجه إذا لم تقدر. إذا لم تكن المواجهة خياراً، اعثر على طرق أخرى لتشتيت نفسك عن مصدر الإزعاج أو الإيماء بإشارات على الأقل تعبّر عن عدم ارتياحك تجاه هذا الانتهاك.
- تنفَّس ولا تتطفَّل. انتبه للاعتداءات الحسية التي قد تكون سبباً بها، بوضع عطور قوية أو التحدث بصوت مرتفع جداً في الأماكن العامة، وتوجيه أسئلة شخصية للغرباء.
- تعلّم قراءة لغة الجسد. درِّب نفسَك للتعرف على الإشارات التي تصدر عن الأشخاص عند الاقتراب منهم من خلال ملاحظة سلوك الشخص الآخر. إذا شعرت أنك تجاوزت الحد، تراجع.
تعدُّ المساحة الشخصية عنصراً أساسياً في كل العلاقات، ولحسن الحظ يمكن إدارتها جيداً وبسهولة –نسبياً– بمجرد أن تفهم مدى أهميتها.