لم يأتِ القرآن الكريم كوثيقة تعريف للمسلمين فقط وإنما جاء دستوراً للعالم أجمع، لشرح الحياة بشكل أشمل وأعمق بكل جوانبها المُختلفة، لذلك قال الله تعالى في محكم آياته: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً).
جاء القرآن مُنصفاً للنفس البشرية، ودليلاً على أن النفس الإنسانية مهما وصلت إلى ذروة رقيها لا بد أن تتعثر وتخطئ، كان هذا دليلَ تأكيد من الله عز وجل على أن الحياة رحلة اختبار نجاهد فيها أنفسنا كي ننجو في محاولة بالفوز بالنهاية، فلا أحد على هذه الأرض معصوم من الخطأ طالما يحمل صفات الإنسان.. ستجد ذلك عندما تتدبر قصص الأنبياء الذين تم ذكرهم في القرآن، فتجد أن أنبياء الله الذي اصطفاهم عن البشر أجمعين لكل منهم هفوة إنسانية ترجع لطبيعته البشرية، ولأن الله هو الإله الذي سبقت رحمته عذابه أراد أن يعطي لنا عبرة ويكون رحيماً بنا نحن بني آدم العاديين الذين نجاهد أنفسنا كي نعبر إلى اليقين ونرى حكمة الله في خلقه.
الفضول
الفضول هو إحدى أسوأ الصفات التي تميز بها الإنسان، هذا الذي دفع آدم ليأكل من الشجرة المحرمة، طبيعتنا التي تغلبنا في البحث الدائم عن الأسرار والكشف عن كل ما هو ممنوع ومجهول، تخيل أن تأخذ أمراً ربانياً من الله عز وجل ونفسك البشرية الضعيفة بدافع الفضول وغواية إبليس تجعلك تعصي هذا الأمر (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ).. هذا الفضول الذي ظن به آدم أنه سيجد الخلود هو حواء (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى).
الشّك
خلال رحلة سيدنا إبراهيم عليه السلام تجد أن قصته تتمحور حول الشّك، بداية من رحلة بحثه عن وجود إله لهذا الكون.. (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ).
حتى في اللحظة التي تمرد فيها وحطم الأصنام كان في شيء من الشّك داخله ليثبت لنفسه ولقومه أن الأصنام لا نفع فيها.. (قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُون)، حتى عندما وصل إلى اليقين ونجا من النار، كان لا يزال قلبه يحمل بعض الشّك، وأراد أن يطمئن قلبه على قدرة الخالق في إحياء الموتى، (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قلبي).
الغيرة
سيدنا زكريا عليهِ السلام في كُلّ مرة كان يذهب ليطمئن على مريم عليها السلام، كان يجد عندها رزقاً -حسب التفاسير- إنها أشياء أشبه بالطعام والفاكهة، وهذا ما دفعه -ربما- لأن يشعر بالغيرة منها ويطلب من الله أن يرزقهُ ولداً.
(فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)، (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ).
الغضب وقلّة الصبر
ستجد خلال دعوة سيدنا يونس وأثناء محاولاته في إقناع قومه باتباع الله، لكنهم رفضوا لكلامه، فخرج من القرية يائساً من هدايتهم وغضب وترك قومه ومشي (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).
جاء القرآن شاهداً على قصص وحكايات كثيرة عن صفات الإنسان والتقلبات البشرية في الشخصية، سترى أن سيدنا يعقوب عليه السلام كان يفرق بين أولاده (قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً)، ويوسف عليهِ السلام الذي ظن أن نجاته ستكون في الاستعانة بالملك الذي يريده أن يعرف قصته وأنه مظلوم من قبل امرأة العزيز (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ).
وإذا أمعنت النظر داخل قصة سيدنا موسى عليهِ السلام التي تكررت كثيراً في القرآن الكريم ستجد أنها مليئة بالعبر والأحداث، خليط من الصعود والهبوط داخل النفس البشرية.
كانت قصص الأنبياء الإنسانية إحدى أهم حكم الله تعالى على أن جهاد النفس أعظم وأكبر جهاد، وأننا كبشر ليس كما الملائكة مُعرضون بالتوهة وفقدان بوصلة مشاعرنا والتخبط بين تقلباتنا النفسية.
إنها مشيئة الله الذي أراد بها أنّ يُمهلنا بعض الوقت.. تلك الرسائل الكونية والرحلة التي لن نتمكن من فهمها إلّا عند بلوغ نهايتها.
أنت لم تعِ الحكمة الربانية في اتخاذ الأمور..
ألم تدرك حكمتهُ من قبل؟
ألم ترَ في كلّ مَحنة وقعت فيها مِنحة تعلمت منها؟
علينا ألّا نقسو على أرواحنا، لا بد أن نبقى رحماء على أنفسنا أمام أي تقلب أو عثرات قد نمرّ عليها.
(وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.