"بوديكا المناضلة"، المرأة التي دفعت الرومان تقريباً إلى خارج بريطانيا، واحدةٌ من أكثر الملكات شهرةً. ورغم كونها واحدةً من أوائل النساء "البريطانيات" ذكراً في التاريخ، فإنه لا يوجد دليلٌ مباشرٌ على وجودها.
إنما علينا أن نعتمد على روايات اثنين من المؤلفين الكلاسيكيين، تاسيتوس وكاسيوس ديو، وكلاهما رومانيان كتبا ما كتبا بعد عقودٍ من المعارك بين جيش بوديكا المتمرد وقياداته الجديدة آنذاك من الرومان.
صحيحٌ أن سجلّاتهما قد بُنيت بأهدافٍ سياسيةٍ محددةٍ، واضعين في اعتبارهما أنها موجهةٌ لجمهور رومانيٍ، لكنهما يمثلان معاً المرجع الوحيد عن حياتها.
وحتى إننا لا نعرف اسمها الحقيقي، فكلمة Boudica مشتقةٌ من كلمة bouda التي تعني في البريطانية القديمة "النصر".
أول ظهور لبوديكا في السجل التاريخي بعد 60 عاماً من وفاة زوجها براسوتاغوس، حاكم الشعب الإيسيني. كان الإيسيّون يعيشون في منطقةٍ تغطِّي نورفولك الحديثة، وشمال سوفولك وشمال شرق كامبريدج شاير.
كان زوجها براسوتاغوس "ملكاً بالإنابة" للرومان بعد فترةٍ وجيزةٍ من غزوهم لبريطانيا عام 43م، وسُمِح له بالاحتفاظ بأراضيه مقابل دعمه للرومان سياسياً، ودفعه المستحقات لهم باعتباره زعيماً قبلياً.
مُنحت الجنسية الرومانية لبراسوتاغوس ولزوجته وابنتيه الصغيرتين. وبصفتها ملكةً بالإنابة، فإنَّ من الراجح أن بوديكا كانت تشرب النبيذ وتأكل جيداً كالرومان، وربما حتى كانت أرستقراطيةً تتحدث اللاتينية، وكان مستقبلها ومستقبل بناتها مضموناً في ترفٍ نسبيٍ.
بدأت المشكلة عندما توفي زوجها بعد أن أوصى بنصف ثروته فقط للإمبراطور الروماني نيرو، أما النصف الآخر فلم يكن لنيرو، ولا حتى لبوديكا، بل كان لابنتيه الصغيرتين.
كانت دوافعه لفعل ذلك غير واضحة، فربما كان يحاول دعم الفتيات لحكم سلالة إيسيني، أو ربما لم يثق في بوديكا لدعم الرومان، أو ربما كان يحاول أن يُظهر أمام قبيلته أنه لم يكن زعيماً عميلاً للغزاة الأجانب.
كانت النتيجة كارثيةً، فقد نَهَب الرومان قصره، وسلبوا مملكته، واستعبَدوا أقاربه وجرَّدوا جميع زعماء إيسيني من أراضي أجدادهم.
كان الأسوأ لا يزال قادماً، فقد قام الرومان بجلد بوديكا نفسها، واغتصبوا الأميرات الشابات. وبالنسبة للجمهور الروماني، فقد كان هذا التشويه للطبقة الحاكمة الرومانية أو البريطانية مستهجناً، أما بالنسبة إلى إيسيني، فبوديكا لم تكن مجرد ملكةٍ، بل كانت أيضاً كاهنةً، وربما تجسيداً لإلهتهم "أندراست".
كان هذا أكثر من مجرد انتهاكٍ لقادتهم الدنيويين، فقد دنّست عمليات الاغتصاب والجلد ثقافة إيسيني ومنظومة معتقداتهم بالكامل.
حان وقت الردِّ على الإمبراطورية الرومانية بلا رحمة
لكنّ المؤرخ الروماني كاسيوس ديو يقدّم سبباً جذرياً مختلفاً للأحداث التي تلت ذلك، مركِّزاً بدلاً من ذلك على الاستعادة المفاجئة للقروض الرومانية الكبيرة للزعماء القبليّين، ما تركهم مذلولين وفي أزمةٍ ماليةٍ خطيرةٍ.
وأياً ما كان المحفِّز، فقد كان لدى الشعب الإيسيني دافعٌ للتمرد، كل ما كانوا يحتاجونه هو قائد.
وصعدت بوديكا الغاضبة لشغل ذاك الفراغ، في إشارةٍ إلى أنهم وإن كانوا مكسورين، فإنهم لا زالوا يملكون كرامتهم، وقد حان وقت الرد.
لم تكن بوديكا أول ملكةٍ محاربةٍ في ذلك العصر تقود شعبها إلى الحرب. فقد حكمت كارتيماندوا، أول امرأةٍ بريطانيةٍ تُدرج في السجل التاريخي، قبيلة بريغانتيس العدائية فيما يُعرف الآن بشمال إنجلترا.
خطّطت بوديكا للانتقام لإيسيني من قادتهم الرومان، بمساعدة جيرانها الجنوبيِّين، قبيلة ترينوفانتس، الذين كانوا أول البريطانيين الأصليين الذين وقَّعوا معاهدةً مع روما، عام 54 ق.م بعد محاولة يوليوس قيصر الثانية لغزو بريطانيا.
لكنَّ تلك المعاهدة كانت على وشك الانهيار، فهؤلاء أيضاً رأوا أراضيهم مدمَّرةً. وعاصمتهم السابقة يتّخذها الرومان مقراً لإدارتهم الجديدة، مع إعادة توزيع الأراضي القبليّة على الجنود الرومان المتقاعدين.
والأسوأ من ذلك هو أن قبيلة الترينوفانتس قد أُمروا بالدفع مقابل بناء معبدٍ جديدٍ ضخمٍ للإمبراطور الروماني كلوديوس. حينها انفجرت الكراهية المعجونة بالغضب، وكوّنت بوديكا جيشها.
شهد موسم الحملات في عام 60م انشغال القوات الرومانية في الحدود الغربية لبريطانيا، انتهزت بوديكا الفرصة وتحركت لتدمير قلب بريطانيا الرومانية.
يصف المؤرخ الروماني تاسيتوس الانتفاضة بأنها كانت "ثورةً مفاجئةً"، ما يشير إلى أن الرومان لم يكونوا على علمٍ بها. فبعد سنواتٍ من التعاون، لم تظهر أية رحمةٍ للآلاف القليلة المتبقية من الرومان الذين يدافعون عن عاصمتهم، حتى عندما فرّوا من أجل حياتهم إلى قدسيّة المعبد. ذُبِحوا أو حُرِقوا أحياءً أثناء إبادة العاصمة الرومانية في بريطانيا.
تتفق السجلات الكلاسيكية مع اكتشافٍ صادم: بلغ عمق الطبقة المحترقة في الأرض من بضعة سنتيمتراتٍ إلى نصف مترٍ، وسواءٌ كان الحرق على أيدي الرومان أثناء فرارهم، أو على أيدي جيش بوديكا، لكنّ الطبقة المحروقة كانت واضحةً في كل الأماكن التي وصلتها جيوشها، في كولشيستر وفي لندن وسانت ألبانز.
الانتقام لم ينتهِ بعد.. سنمحو آثار الرومان من بلادنا
يعيد كاسيوس ديو وصف وحشية هجوم البريطانيين القدماء، فقد قُطِّعت أثداء النساء وخُيطت في أفواههنَّ، ثم اختُرقت أجسادهنّ بالطول بأسياخٍ خشبيةٍ. الآن تحترق لندن في درجات حرارة تقارب 1000 درجة مئوية (1800 فهرنهايت)، ويمكن لبوديكا الآن أن تنظر إلى الخلف وتبتسم لنجاحها الثاني، فقد دخلت لندن بجيشها القبليّ وانتصرت على الرومان مرة أخرى.
جيش بوديكا يتقدَّم أكثر، فالآن ترقد اثنتان من أكبر المدن في بريطانيا الرومانية في الرماد، فقد أتم جيش بوديكا عمله على أكمل وجهٍ بإحراقهما، ولكن تعطشهم للثأر لم يُروَ بعد.
في الشمال الغربي يقع رمزٌ آخر للحكم الأجنبيّ المكروه، لم تكن مدينةً رومانيةً، بل مدينةً من المتعاونين البريطانيين الذين بدوا يمجدون في كل شيءٍ على الطراز الروماني.
بالنسبة لجيش بوديكا، كانت تلك الإهانة الثقافية من قبيلة عدوهم كاتافيلوني أكبر من أن تُحتمل. بدأت القبائل جمع الناس حولهم ببطءٍ، وانطلقوا في رحلتهم التالية باتجاه الشمال الغربي إلى الهدف الثالث: المدينة البريطانية المتعاونة مع المحتلين الرومان.
عندما وصلت بوديكا وجيشها إلى المستعمرة الرومانية، كان أهالي المدينة قد أُجلوا عنها، أنقذ هذا القرار السكان بالطبع، لكنّ لم يُنقذ المدينة التي أُحرقت كالمدينتين السابقتين، بينما انتشر جنود بوديكا في القرى المجاورة لقتل عدوهم البريطاني المتعاون مع الاحتلال الروماني.
المواجهة الأخيرة مع الإمبراطورية الرومانية
وفقاً للمؤرخ تاسيتوس، فقد قُتل حتى ذلك الوقت نحو 70 ألف مواطنٍ من الرومان وحلفائهم.
وفي حين أن الأرقام مبالغٌ فيها بشكلٍ شبه مؤكدٍ، فقد جلب هذا الأمر مشكلةً للقادة الرومان، فقد فقدوا الآلاف من القوات والمدنيين، ما أضعف بالفعل من قوّة الرومان في بريطانيا، وأبطأ حملتهم على بريطانيا.
لكنَّ الأسوأ من ذلك كله أنَّ الإذلال الروماني جاء على يد امرأة، لم تعانِ الإمبراطورية من مثل هذا العار منذ إغراء كليوباترا لكلٍّ من قيصر ومارك أنتوني.
لم ينجُ إلا القليل من التفاصيل حول مسيرة بولينوس (القائد الروماني) نحو الجنوب الشرقي لمواجهة بوديكا، لا نعرف الموقع حتى. يصف تاسيتوس الموقع بعباراتٍ غامضةٍ: رأس وادٍ وغابةٌ خلفه وسهلٌ مفتوحٌ أمامه حيث تجمّع العدو.
أما كاسيوس ديو فينقل لنا أنَّ عدد قوات بوديكا كان 230 ألفاً إلى 10 آلافٍ من الرومانيين، لكنَّ الفارق الحاسم كان في أسلوب القتال: بينما كان البريطانيون خبراء في أساليب حرب العصابات، كان الرومان آلة قتلٍ منظمةً للغاية.
من المؤكّد أنَّ خُطب بوديكا المثيرة في كلٍّ من سجلات تاسيتوس وديو ترجع للمبالغات أكثر ما ترجع للتاريخ، ومع ذلك فهم مهتمون بكيفية تصويرها ضدَّ المضطهدين الرومان.
يصف تاسيتوس كيف حشدت بوديكا قوَّاتها كما يليق بملكةٍ محاربةٍ، متذرّعاً بأنّها كانت تتمتّع بأخلاقٍ وشجاعة، وأن الآلهة تقف بجانبها.
وعلى النقيض من ذلك، فإن خطاب كاسيوس ديو على لسانها الذي طال أمده في المعركة يعتمد على التصوُّر الروماني للبريطانيين على أنهم كائناتٌ من عالمٍ آخر تقريباً، شجاعةٌ ولكن باستخدام الفنون القديمة والسريّة السحرية للتغلّب على أعدائهم.
حتى الآلهة لم تستطع إنقاذ البريطانيين هذه المرة: حافظ الجنود الرومان على تشكيلاتهم قبل إطلاق هجومٍ مدمرٍ. كان جيش بوديكا الشاسع محاصراً في السهل، دون أيِّ طريقٍ إلى الأمام، وأي انسحابٍ ستعيقه عائلاتهم وممتلكاتهم. وبلا مساحةٍ للقتال ولا وسيلة للفرار، ذُبح البريطانيون.
النهاية مأساوية لكنَّ أسطورتها ظلَّت حية
وبوديكا؟ يقول تاسيتوس إنها قتلت نفسها بالسم، بينما يقول كاسيوس ديو إنّها مرضت وتوفيت. اختفت بناتها من التاريخ، بينما واجه رجال القبائل هجوماً يقارب الإبادة الجماعية.
دُمّرت أراضيهم وبيوتهم، وأُقيم مكانها مشهدٌ عسكريٌ للحصون، لتأكيد الصورة الأيقونية للقوة الرومانية كما كان أي جيشٍ سيفعل.
مع ذلك، وبعيداً عن فقدان قوتها الخاصة، عاشت بوديكا في جميع أنحاء الإمبراطورية في صورة قصةٍ تحذيريةٍ لما يحدث عندما تترك امرأةً تحكم!
ومن المفارقات أن إرثها قد خُلِّد، في حين تلاشى اسم بولينوس. استدعت الملكة إليزابيث الأولى فكرة ملكة البريطانيين المحاربة التي تقاتل عدواً أجنبياً، في القرن السادس عشر؛ للمساعدة في إضفاء الشرعية على حقها في الحكم ومكافحة الإمبراطورية الإسبانية، والملكة فيكتوريا في القرن التاسع عشر، في محاولتها لحكم إمبراطوريةٍ.
لنحو ألفي عامٍ، أُعيد ميلاد بوديكا كبطلةٍ، ومهرطقةٍ، ومقاتلةٍ من أجل الحرية، ومتمردةٍ ذات شعرٍ أحمرٍ. إنها مفارقة الملكة المحاربة التي تستمر: امرأةٌ لديها القدرة على أن تُوجد الحياة، لكنها قادرةٌ كذلك على أن تجلب الموت.