عادةً ما يتبادر إلى الذهن عند سماع مصطلح "بنوك الطعام"، أن الحديث عن دول بها نسبة كبيرة من الفقراء، أما في بلد مثل ألمانيا فهي على الأرجح تساعد اللاجئين أو المشردين، لكن القصة مختلفة، بل وتواجه تلك البنوك أزمة خانقة، فما هي؟
ففي ألمانيا، أقوى اقتصاد في دول الاتحاد الأوروبي، يوجد أكثر من 900 بنك طعام، تنضوي جميعاً تحت اتحاد بنوك الطعام في ألمانيا "تافل دويتشلاند"، توفر الطعام مجاناً لأكثر من مليوني شخص، بحسب تقرير لشبكة DW الألمانية، لكن الفئات المستفيدة اختلفت بشدة خلال السنوات الأخيرة.
جنون الأسعار وأزمة التضخم
لا بد في البداية من الإشارة إلى أن أسعار الطعام والمواد الغذائية الأساسية قد ارتفعت في ألمانيا خلال العام الجاري 2023، بنسبة 15% تقريباً، مقارنة بما كانت عليه العام الماضي، بينما بلغ معدل التضخم 7,3%، بحسب بيانات مكتب الإحصاء الفيدرالي.
وفي ظل هذه الارتفاعات الجنونية في الأسعار أصبح كثيرون يعتمدون على بنوك الطعام التي شهدت، منذ فبراير/شباط 2022، زيادة كبيرة في عدد الأسر التي تحتاج مساعدتها، وتقول مؤسسة "تافل دويتشلاند"، إن 20% من بنوك الطعام باتت تواجه ضعف عدد الأشخاص الذين يعتمدون عليها.
وهذا التاريخ (فبراير/شباط 2022) هو إشارة إلى بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة"، بينما يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر".
وتعتمد بنوك الطعام في ألمانيا على التبرعات من الأفراد والشركات والمؤسسات، فهي منظمات خيرية بطبيعة الحال، وتساعد بدورها أي شخص يثبت أنه يواجه صعوبات مالية، لكن هذه البنوك تواجه ضغوطاً متزايدة في الوقت الراهن جراء نقص التبرعات التي تقدمها الشركات.
وتتزامن هذه الصعوبات المتمثلة في نقص التبرعات مع عاملين آخرين يتمثلان أولاً في ارتفاع أسعار الغذاء، وثانياً في تزايد عدد الأسر التي ترغب في الحصول على خدمات بنوك الطعام، وسط ارتفاع معدلات التضخم وتدفق اللاجئين من أوكرانيا.
وفي هذا الإطار ترغب بنوك الطعام في الحصول على دعم حكومي، لكي تستطيع الاستمرار في مساعدة من هم في أمسّ الحاجة إلى الغذاء في البلاد.
ويمكن رصد الضغوط التي تتعرض لها بنوك الطعام في ألمانيا، من خلال زيارة منطقة كوبينيك بالعاصمة برلين، حيث جرى تحويل مركز لمشجعي نادي "إف. سي. يونيون برلين"، إلى نقطة لتوزيع المواد الغذائية على الفقراء والمحتاجين.
فعلى الرغم من الطقس الحار ينتظر أمام المركز الكثير من الفقراء في طابور طويل للحصول على بعض الطعام، وتعد "دنيس" واحدة من أولئك الذين يعتمدون على بنوك الطعام في برلين، وتشير إلى أنها في السابق كانت مترددة في اللجوء إلى بنوك الطعام، لكنها في نهاية المطاف لم تجد بديلاً.
"خجل" بعض الألمان من اللجوء لبنوك الطعام
وفي مقابلة مع DW أضافت دنيس، وهي أم لطفل "كنت مترددة للغاية في البداية، كنت أشعر بالخجل في الماضي، لكني قررت أن أجرب بنوك الطعام، لأنه بات من الصعب تدبير أموري مع ارتفاع أسعار المواد الغذاء".
اللافت هنا أن ما عبّرت عنه دنيس يكاد يتطابق مع ما قالته مواطنة ألمانية أخرى تدعى "ليليفر كوس" لشبكة CNN الأمريكية قبل نحو ست سنوات. كوس تعمل في محل للجزارة (بيع اللحوم)، وتتوجه إلى أحد بنوك الطعام المحلية صباح كل يوم خميس، للحصول على ما تحتاجه لإطعام أسرتها. وتخفي كوس عن زملائها في العمل ذهابها إلى بنك الطعام، وقالت للشبكة الأمريكية: "سوف يتحدثون عني بالسوء، وأنا لا أريد ذلك".
كارول سيلي، متطوعة في بنك الطعام بمنطقة كوبينيك، قالت لشبكة DW: "قبل الحرب كان عدد الأشخاص الذين يأتون أيام الثلاثاء لا يتجاوز 340 شخصاً، لكن هذا الرقم ارتفع إلى أكثر من 500 شخص". وأضافت: "لقد رأينا المزيد والمزيد من الأسر التي تأتي إلينا بسبب الحرب، لحسن الحظ لم نضطر بعدُ إلى غلق أبوابنا أمام الأشخاص الجدد".
أما ريتا هيرش، وهي متطوعة أخرى، فقد أشارت إلى أنها تمتلك سجلاً لأحد بنوك الطعام تديره كنيسة في برلين، مضيفة "بلغ العدد الجمعة الماضية (14 يوليو/تموز 2023) 564 شخصاً".
وفي ألمانيا، من أجل الحصول على دعم من أحد بنوك الطعام، يتعين إثبات الحاجة إلى الحصول على مساعدات غذائية. ونتيجة تزايد الاعتماد على بنوك الطعام بدأت بعضها في تقليل كميات الأطعمة التي تقدمها للفقراء، فيما اضطرت بنوك أخرى إلى التوقف عن قبول أشخاص جدد.
وتعود فكرة تأسيس أول بنك للطعام في برلين إلى عام 1993. وتساعد بنوك الطعام في الوقت الراهن حوالي مليوني شخص، فيما تقدم كبرى سلاسل المتاجر تبرعات لمساعدة هذه الكيانات على توفير الغذاء للفقراء.
ويدور العمل في بنوك الطعام "تافل" حول فكرة قيام المتطوعين بالذهاب إلى متاجر الأغذية وتجار التجزئة والمخابز، عدة مرات في الأسبوع، وأحياناً بشكل يومي، من أجل جمع بقايا الأطعمة التي ما زالت صالحة للأكل لتحقيق هدفين: الأول تخفيف عبء النفايات عن كاهل أصحاب المتاجر، والهدف الثاني وهو الأهم، ويتمثل في دعم الذين يعانون من الفقر.
وفي بعض الأحيان يقوم أصحاب سلاسل المتاجر الكبيرة بتسليم البضائع الزائدة عن حاجتها إلى بنوك الطعام في المساء مرة أو مرتين أسبوعياً. وعقب ذلك، تفتح بنوك الطعام أبوابها أمام المحتاجين الذين يتعين عليهم إثبات ذلك عن طريق إظهار وثيقة من مكتب الرعاية الاجتماعية، قبل أن يتمكنوا من الحصول على الأغذية والأطعمة والفاكهة.
وتوفر بنوك الطعام في ألمانيا خدماتها، ليس فقط للمشردين وإنما أيضاً للعديد من الأسر والآباء والأمهات وأصحاب المعاشات واللاجئين، ممن يعانون من أوضاع اقتصادية متردية، والراغبين في توفير بعض النفقات الهامة كشراء الكتب المدرسية لأطفالهم.
وتساعد بنوك الطعام الألمانية الأفراد والأسر الفقيرة، أي الأفراد الذين يمتلكون أقل من 60% من متوسط صافي الدخل، فيما يبلغ عدد الذين هم تحت خط الفقر حوالي 13 مليون شخص.
ما الأزمة التي تواجه بنوك الطعام في ألمانيا؟
الأوكرانية تاتيانا كودينا، التي فرت مع طفلها من الحرب الروسية، تعتبر بنك الطعام في برلين المنقذ الوحيد لها ولطفلها، في ظل تزايُد الأعباء المالية التي أثقلت كاهلها المثقل أصلاً جراء الفرار من بلدها. وقالت لشبكة DW، تساعدني بنوك الطعام "على توفير الكثير من المال، فضلاً عن أني ألتقى بداخلها مع ألمان وأوكرانيين".
الجدير بالذكر هنا أن مصطلح "الفقر" في ألمانيا يدل على "الفقر النسبي" وليس "الفقر المطلق"، إذ لا تعاني هذه القطاعات من مجاعة وشيكة، حيث يدخل الفقر في ألمانيا في نطاق عدم المشاركة في الأنشطة الاجتماعية ومعاناة الأطفال من الجوع دون غداء، وعدم السفر في الإجازات، وعدم الحصول على التعليم الأساسي.
وقالت مؤسسة "تافل دويتشلاند" إن التبرعات الغذائية التي تحصل عليها بنوك الطعام "آخذة في الانخفاض"، وذلك في بيان أرسلته للشبكة الألمانية. ومن جانبه سلط أندرياس ستيبوهن، الرئيس الجديد لمؤسسة "تافل دويتشلاند"، الضوء على العوامل وراء نقص التبرعات، قائلاً: "تُقدم المتاجر الكبرى في الوقت الراهن على العمل بشكل اقتصادي، ما يسمح لها بعدم إبقاء الكثير من الأطعمة على الأرفف في نهاية اليوم".
"هذا الأمر مرحب به من حيث المبدأ، لأنه من الجيد تقليل هدر الطعام إلى الحد الأدنى، لكن بنوك الطعام في الوقت الراهن باتت في حاجة ماسة إلى مزيد من التبرعات الغذائية، لدعم هذا العدد المتزايد من الفقراء والأشخاص الذين يعتمدون عليها"، بحسب رئيس اتحاد بنوك الطعام.
وأشار ستيبوهن إلى أن أزمة تلوح في الأفق تطارد بنوك الطعام، مضيفاً "هذه البنوك لا تستطيع تعويض إخفاق الدولة والمؤسسة السياسية في الوفاء بواجباتها". ورغم تشديده على ضرورة الحفاظ على استقلالية بنوك الطعام، فإن ستيبوهن يدعو إلى "توفير تمويل أساسي [من الحكومة] حتى تمضي بنوك الطعام قدماً في مساعدة الفقراء". لكن في الوقت الحالي لا يزال الغموض يكتنف مسألة ما إذا كانت الحكومة سوف تدعم بنوك الطعام أم لا؟
وبالعودة إلى دنيس، التي تعد واحدة من أولئك الذين يعتمدون على بنوك الطعام في برلين، قالت إن ما نال إعجابها في عمل بنوك الطعام يتمثل في اعتمادها بشكل أساسي على العمل التطوعي". ويتوافق حديث دنيس مع بيانات مؤسسة "تافل دويتشلاند"، التي تشير إلى أن بنوك الطعام تعتمد على نحو 60 ألف متطوع.
إذ إنه منذ تأسيس أول بنك للطعام في ألمانيا عام 1993، يؤكد القائمون عليها عدم رغبتهم في أن تكون بنوك "تافل" جزءاً من منظومة الرعاية الاجتماعية الحكومية.