جاءت الحرب الأخيرة في أوكرانيا لتلقي بمزيد من الظلال على ملف الدعم الحكومي للخبز في مصر، رغم بُعد القاهرة عن ساحات القتال، وذلك لأن روسيا وأوكرانيا تنتجان نحو ثلث إنتاج العالم من القمح، في حين تحتل مصر المركز الأول عالمياً في استيراد القمح، بحجم يبلغ قرابة 11.6 مليون طن من بين 18 مليون طن تستهلكها سنوياً، وتشتري 80% من وارداتها للقمح من موسكو وكييف.
وبات من الضروري فهم قصة الدعم الحكومي للمصريين وتاريخه، وكيف أصبح هذا الأمر منذ وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي لسدة الحكم عام 2014.
متى بدأ الدعم الغذائي ودعم الخبز في مصر؟
بدأ اعتماد سياسات حكومية للدعم الغذائي في مصر خلال الحرب العالمية الثانية، لحماية الطبقات الفقيرة من تأثيرات الحرب على عمليات الإنتاج الزراعي والشحن والتوريد. ومع قدوم العهد الناصري للحكم وتبنيه سياسات اجتماعية داعمة للمواطنين مقابل تأميم الحياة السياسية، اعتمدت الحكومة نظام الكروت التموينية لكافة المواطنين، لتشمل الخبز والأرز والزيت والسكر والشاي.
ولكن في ظل الاكتفاء الذاتي من أغلب السلع المندرجة ضمن الدعم التمويني لم تتجاوز نسبة الإنفاق على الدعم الغذائي 1% من حجم الإنفاق الحكومي في العام المالي 1970-1971، الذي شهد وفاة عبد الناصر.
مع وصول السادات للحكم، وتبنيه سياسة الانفتاح الاقتصادي، لجأت الحكومة لطلب قرض من صندوق النقد الدولي، الذي اشترط تخفيض الدعم الحكومي للمواطنين. فأعلنت الحكومة، في يناير/كانون الثاني 1977، زيادة أسعار السلع الأساسية بنسب تتراوح بين 20 إلى 30%، فاندلعت احتجاجات في يناير/كانون الثاني 1977، شملت تسع محافظات، ما دفع الجيش للانتشار في الشوارع لإعادة النظام، وسقط خلال ذلك 64 قتيلاً على الأقل.
فأُلغيت قرارات زيادة الأسعار، وامتد الدعم التمويني ليشمل 20 سلعة، بهدف تقويض احتمالية اندلاع احتجاجات جديدة يمكن أن تتطور إلى مطالب سياسية. وبلغت نسبة الإنفاق على الدعم من الإنفاق الحكومي 19.5% في عام 1981، الذي شهد وفاة السادات.
في عهد مبارك، أصبحت البلاد تستورد 70% من احتياجاتها الغذائية من الخارج، ما ربط السوق المصري بالتغيرات في أسعار السلع بالسوق العالمي. وبدأت الحكومة في عدة إجراءات لتخفيض عدد المستفيدين من الدعم الحكومي، شملت حذف المتوفين والمسافرين خارج البلاد، فضلاً عن التباطؤ في إضافة المواليد الجدد، ثم ألغت الدعم عن السلع التي يستفيد منها الأغنياء بالدرجة الأولى، مثل اللحوم الحمراء والدجاج والأسماك بحلول عام 1991، وبنهاية الألفية الثانية تناقص حجم المستفيدين من الدعم الحكومي من 99% من عدد المواطنين في بداية عهد مبارك ليصل إلى 70% فقط.
ورغم ذلك، فقد ظل مبارك حريصاً على تجنب المساس بسعر رغيف الخبز قدر الإمكان، إذ ارتفع سعره خلال الثمانينات من قرشين إلى خمسة قروش، في حين خفَّ وزنه من 160 غراماً إلى 130 غراماً، واستمر على ذلك الوزن من عام 1991 إلى نهاية عهد مبارك في عام 2011.
ملف الدعم التمويني في عهد السيسي
وعقب الإطاحة بالرئيس الراحل محمد مرسي عام 2013، انخرط النظام الجديد في عمليات استدانة مكثفة لتمويل مشاريع البنية التحتية من طرق وكباري، فضلاً عن بناء عاصمة إدارية جديدة، والتوسع في بناء السجون، وعقد صفقات تسليح بمليارات الدولارات، فارتفع الدين الخارجي من 40 مليار دولار في عام 2014 ليصل إلى 138 مليار دولار في عام 2021، ووصل بند سداد الديون وفوائدها في موازنة العام المالي الحالي إلى ما يزيد عن 1.1 تريليون جنيه، أي أكثر من 60% حجم من الموازنة.
في مواجهة الفجوة المتزايدة بين الإيرادات والنفقات الحكومية، بدأ النظام منذ عام 2014 في تحويل الدعم التمويني من دعم لأسعار السلع بشكل كامل إلى تقديم نظام دعم نقدي، مع استثناء الخبز الذي استمر تحت بند الدعم السلعي، وبذلك أصبح الفرد يحصل على 15 جنيهاً يشتري بها ما يشاء من السلع التموينية، التي تشمل قرابة 18 سلعة، وهي (الزيت والسكر والأرز والشاي ومساحيق الغسيل والصابون واللبن المجفف والخل والفول والدقيق والصلصة والملح والحلاوة الطحينية والبسكويت والمكرونة والعدس والجبنة والسمنة).
مع تعويم الجنيه المصري جزئياً عام 2016، وتضخم الأسعار، زادت الحكومة الدعم النقدي المقدم للفرد إلى أن وصل إلى 50 جنيهاً للفرد في عام 2017، في حين استمر سعر رغيف الخبز بخمسة قروش، في حين تراوحت تكلفة إنتاجه على الحكومة ما بين 30 إلى 60 قرشاً.
وفي ظل الأزمة المالية بمصر لجأت الحكومة إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي مرتين، الأولى في عام 2016، عبر اقتراض 12 مليار دولار بالتزامن مع تعويم الجنيه، والثانية في عام 2020، عبر اقتراض 8 مليارات دولار، لمواجهة تداعيات انتشار فيروس كورونا. وفي ظل اشتراط صندوق النقد تبني خطة تقشف للإنفاق الحكومي، مقابل إعطاء القروض، أصبح ملف تخفيض الدعم التمويني يمثل أولوية لدى صانع القرار في مصر، فبدأت الحكومة بتخفيض دعم المواد البترولية، ليتناقص تدريجياً من 123 مليار جنيه في موازنة العام المالي "2013-2014" ليصل إلى 18 مليار جنيه في العام المالي 2020-2021، مع ملاحظة أن سعر الدولار قبل ثماني سنوات بلغ 7.5 جنيه، بينما يبلغ حالياً 15.6 جنيه، أي أن الدعم فعلياً انخفض من 16.4 مليار دولار إلى 1.15 مليار دولار تقريباً.
ثم جاء الملف الأكثر حساسية، وهو ملف الدعم التمويني، فقررت الحكومة في الخطوة الأولى عام 2018 قصر الدعم على الفئات الفقيرة والمستحقة، وألغت البطاقات التموينية لكل من يحصل على راتب ثابت يبدأ من 7 آلاف جنيه، ومن يدفع فاتورة كهرباء تبدأ من 1200 جنيه، ومن يدفع فاتورة لخط محمول بداية من 500 جنيه شهرياً، ومن يمتلك سيارة حديثة. وقد أسهمت تلك الخطوات خلال سنتين، بحسب تصريح لوزير التموين علي مصيلحي، في حذف نحو 10 ملايين شخص غير مستحق للدعم من قاعدة البيانات بحلول عام 2020، ليصل إجمالي عدد المستحقين إلى نحو 70 مليون مصري، ما وفر على الدولة نحو 5 مليارات جنيه سنوياً.
تلك الإجراءات تفهّمها المجتمع، باعتبار أنها تهدف لإيصال الدعم لمستحقيه، ولكن الحكومة لم تكتفِ بما سبق، إذ فجّر السيسي مفاجأة، في ديسمبر/كانون الثاني 2021، خلال حديثه عن أن بطاقات التموين القديمة ستقتصر على فردين فقط، بدلاً من أربعة، بينما لن تُمنح أي بطاقات تموين للمتزوجين الجدد، وهو ما يعني أن الحكومة تهدف إلى التخلص تدريجياً من أعباء برنامج الدعم التمويني بالكلية، وهو ما سيُلقي بالمزيد من الأعباء على الأسر المصرية، التي تعاني ابتداء من ارتفاع تكلفة المعيشة، وذلك في ظل بلوغ نسبة من هم تحت خط الفقر بمصر 29.7% بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، مع العلم أن خط الفقر الذي حددته الحكومة يُقصد به من يحققون دخلاً شهرياً يقل عن مبلغ 857 جنيهاً، أي ما يعادل قرابة 55 دولاراً في الشهر، وهو مبلغ لا يكفي ابتداء لدفع إيجار السكن أو توفير الحد الأدنى من الطعام والشراب، فضلاً عن التعليم والرعاية الصحية.
ملف دعم الخبز
مر ملف دعم الخبز بعدة تطورات في عهد السيسي، مع تحايل الحكومة أولاً على رفع سعره عبر تخفيض حجمه تدريجياً من 130 غراماً في عام 2013، ليصل إلى 90 غراماً في عام 2020، فيما وضعت الحكومة في عام 2014 حداً أقصى لعدد أرغفة الخبز المستحقة للفرد، لتقتصر على خمسة أرغفة يومياً، كما وضعت نظاماً يمنح 10 قروش في رصيد بطاقة التموين للمواطن مقابل كل رغيف خبز مدعم لا يشتريه، وهو ما يتيح له استبدال الرصيد الناتج عن عدم شراء الخبز بسلع تموينية.
ورغم حديث السيسي في عام 2016 عن أن تكلفة رغيف الخبز الذي يشتريه المواطن بخمسة قروش تكلف الحكومة مبلغاً يتراوح من 55 إلى 60 قرشاً، فإنه تعهد آنذاك بعدم المساس بسعره المدعم. لكن مع تزايد حجم الديون الخارجية والداخلية، وارتفاع سعر القمح عالمياً ليبلغ 350 دولاراً للطن الواحد، في ظل تداعيات كورونا على عمليات الزراعة والتوريد، أعلن السيسي في أغسطس/آب 2021، أنه قد جاء الوقت لرفع سعر رغيف الخبز، قائلاً بتهكم إنه لا يُعقل أن يساوي سعر شراء 20 رغيفاً مدعماً سعر شراء سيجارة واحدة.
ثم جاءت الحرب مؤخراً في أوكرانيا لترفع سعر طن القمح عالمياً إلى 430 دولاراً، في حين أن الحكومة المصرية سبق أن حددت سعر الطن في موازنة العام المالي الحالي بمبلغ 255 دولاراً، وبناء على ذلك فإنها ستضطر لتعديل مبلغ 51 مليار جنيه المخصصة لدعم الخبز في الموازنة، وتخصيص مبالغ أكبر لدعم الخبز. وفي حال طول أمد الأزمة الأوكرانية وتداعياتها ستواجه مصر أزمة في استيراد القمح الروسي، في ظل العقوبات الغربية المفروضة على البنوك الروسية مؤخراً، فضلاً عن تعثر شحن القمح الأوكراني عبر البحر الأسود في ظل القتال.
وفي مواجهة تلك الأوضاع، أخذ الإعلام المصري يتحدث عن نية الحكومة اتخاذ قرارات بشأن رفع سعر رغيف الخبز المدعوم حكومياً، في نهاية شهر مارس/آذار الجاري، كما دعا المواطنين للتقليل من استهلاك الخبز، الذي يمثل الغذاء الأساسي للمواطنين، حيث يبلغ متوسط استهلاك المصريين للخبز كمية تتراوح من 180 إلى 210 كيلوغرامات سنوياً للفرد، وهو ما يعادل ثلاثة أضعاف المتوسط العالمي، الذي يتراوح بين 70 إلى 80 كيلوغراماً للفرد، بحسب دراسة نشرتها جامعة أكسفورد في عام 2015.
الحلول الحكومية
تقارن الحكومة، بحسب تصريحات المسؤولين، بين رفع سعر رغيف الخبز وإحلال الدعم النقدي للخبز بدلاً من الدعم السلعي، بحجة أن ذلك سيُسهم في تحجيم استخدام بعض المواطنين للخبز المدعم في العلف الحيواني وإطعام الطيور المنزلية، وهو ما يقلل من معدل استهلاك الخبز، وبالتالي ستنخفض نسبة الإنفاق الحكومي على الدعم في الموازنة السنوية، التي تُعتمد سنوياً في نهاية شهر يونيو/حزيران.
الزيادة المتوقعة في سعر الخبز المُدعم ستتزامن في حال إقرارها مع زيادات أخرى تشهدها أسعار الوقود والحديد والزيوت والذرة والأرز والسكر والإسمنت، وغيرها من السلع، وهو ما سيعني تزايد معاناة شرائح واسعة من المواطنين، وتراجع قدرتهم على تلبية احتياجاتهم الغذائية الأساسية، وهو ما يهدد باندلاع احتجاجات مجتمعية وشعبية، تعيد للذاكرة أحداث يناير/كانون الثاني 1977. وتظهر إرهاصات حالية للغضب الشعبي عبر انتشار مقاطع كثيرة مصورة للمواطنين خلال الشهر الجاري على مواقع التواصل الاجتماعي يُبدون فيها تذمرهم من ارتفاع أسعار السلع، وينتقدون خلالها الحكومة، إن الكرة الآن في ملعب الحكومة، حيث ستؤثر قراراتها الوشيكة الساعية لتجاوز الأزمة الاقتصادية الحالية على مستقبل المشهد المصري بأكمله، وربما تدفع باتجاه حراك شعبي يفتح ثغرة في جدار الجمود السياسي الذي تعاني منه البلاد.