عانى أكثر من 155 مليون شخص حول العالم من الجوع الحاد، العام الماضي، ويبدو أن الرقم في سبيله للزيادة هذا العام، بعد أن ارتفعت تكلفة الغذاء إلى أعلى مستوى خلال عقد، فهل اقتربت ثورة الجياع؟
وكان مؤشر أسعار الغذاء التابع للأمم المتحدة قد أظهر أن أسعار المواد الغذائية العالمية قد ارتفعت للشهر الـ12 على التوالي، في مايو/أيار الماضي، بحوالي 40% على أساس سنوي، كما شهد شهر يونيو/حزيران أكبر ارتفاع شهري في متوسط أسعار المواد الغذائية منذ أكثر من عقد.
وبشكل عام يؤدي التضخم العالمي إلى رفع أسعار كل شيء، من الغذاء إلى الفولاذ والخشب والطاقة، كما ساهم الاستخدام العالي للديزل الحيوي، والزيادات في الأسعار العالمية للحوم ومنتجات الألبان في الارتفاع الحاد في أسعار الغذاء العالمية.
وأظهر تقرير الأمم المتحدة أن الأسعار الدولية لزيت النخيل وصلت إلى أعلى مستوى لها منذ فبراير/شباط 2011، بسبب تباطؤ نمو إنتاج زيت النخيل في دول جنوب شرق آسيا، وأدى ارتفاع احتياجات الاستيراد العالمية إلى خفض المخزونات في الدول الرئيسية المصدرة.
ماذا يعني ارتفاع تكلفة الغذاء؟
نشرت وكالة Bloomberg الأمريكية تقريراً بعنوان "كيف تجتاح تكلفة الغذاء المتزايدة أرجاء العالم"، رصد أسباب وتداعيات زيادة تكلفة إطعام العالم بعد أن أصبحت الأعلى منذ عقد كامل. ففي بورصة شيكاغو التجارية، ارتفعت أسعار زيت فول الصويا بأكثر من ضعف ما كانت عليه قبل عام، بينما ارتفعت أسعار لحم الخنزير الخالي من الدهون، والإيثانول، بنحو ثلاثة أرباع.
والأمر نفسه ينطبق على الذرة وزيت النخيل والبن والسكر ومجموعةٍ من السلع الأخرى، حتى أسعار نقل الأغذية حول العالم آخذة في الارتفاع، ووصل مؤشر Baltic Handysize، الذي يتتبَّع أسعار الشحن على السفن المستخدمة لنقل الحبوب بين القارات، إلى مستوياتٍ لم تُشهَد إلا في عام 2008.
ولطالما كانت أسعار المواد الغذائية تسير في دورات، وقد تراجعت معظم العقود الزراعية الآجلة عن ذروتها منذ أوائل مايو/أيار. وحتى مؤشر الفاو لأسعار الغذاء انخفض بشكلٍ طفيف الشهر الماضي، بعد عامٍ من الزيادات المتتالية. ومع ذلك لا يزال هناك سببٌ للاعتقاد بأن الاضطرابات الحالية لن تتلاشى على الفور مع عودة العالم إلى مستويات ما قبل جائحة كورونا.
إذ لن يختفي نهم الصين إلى البروتين مع ارتفاع الدخل، بالإضافة إلى الآثار المستمرة لحمّى الخنازير الإفريقية. علاوة على ذلك، حتى طفرة قصيرة من تضخُّم أسعار الغذاء قد تلحق الضرر بالناس الأفقر في العالم، الذين نادراً ما يفصلهم عن الجوع بضع وجبات فقط.
زيت الطهي.. الهند نموذجاً
من غير المعتاد بالنسبة لدولةٍ كبيرة أن تطوِّر ثقافة طهي منفصلة عن المنتجات المحلية، رغم أن هذا مجرد معضلة تدفع التجارة العالمية في اتجاه عنصر غذائي واحد، ألا وهو زيت الطهي. الهنود، الذين كانوا منذ آلاف السنين يقلون السمبوسة والبرثا والدوسا، هم أيضاً أكبر مستوردٍ في العالم للدهون النباتية السائلة.
أصبح الاعتماد غير الصحي يتزايد على مدار العام الماضي، شهدت وسائل الطهي الأصلية المستخدمة في أجزاء مختلفة من الهند -زيت الخردل في الشرق والشمال، وزيت الفول السوداني في غرب ووسط الهند، وزيت السمسم وجوز الهند في الجنوب- زياداتٍ هائلة في الأسعار بعد ارتفاعٍ بنسبة 44% في معظمها. ويشمل هذا زيت النخيل من إندونيسيا وماليزيا، وزيت الصويا من الأرجنتين والبرازيل والولايات المتحدة، وزيت عباد الشمس من أوكرانيا وروسيا.
وفي حين أن أسباب الارتفاع الصاروخي في الأسعار تتراوح بين الاستخدام التنافسي للمحاصيل الغذائية في الوقود الحيوي، والفيضانات في ماليزيا، والطقس الجاف في البرازيل، وإضرابات عمال الموانئ في الأرجنتين، فإنها تهدِّد الهند بعامٍ آخر من أزمة الغذاء، بعد تقليص الفقراء لاستهلاك البروتين العام الماضي، في أعقاب فقدانهم مصادر رزقهم بسبب عمليات الإغلاق على خلفية جائحة كوفيد-19.
الذرة.. واستخدامات ترفع سعره
لا يُحدَّد سعر الطعام فقط من خلال ما تضعه في طبقك، لنأخذ الذرة مثالاً على ذلك، يُحوَّل ما يقرب من ربع محصول الولايات المتحدة من الذرة إلى خبز التاكو، وحبوب الإفطار، والذرة الحلوة، والفشار. ويُحوَّل ما يقرب من 40% إلى إيثانول يُخلَط بعد ذلك مع البنزين، وتُستخدَم نسبةٌ أخرى لتغذية الحيوانات.
ساعد ذلك في دفع العقود الآجلة للذرة إلى أعلى مستوى لها في ثماني سنوات في مايو/أيار الماضي. ارتفع إنتاج البنزين الأسبوعي في الولايات المتحدة إلى أكثر من 10 ملايين برميل يومياً في يونيو/حزيران، للمرة الأولى منذ عام 2019، وأصبح استخدام الطرق في المدن الكبرى يعود مرةً أخرى إلى ما كان عليه قبل الجائحة.
كما يشهد إنتاج الأعلاف انتعاشاً، خاصةً في الصين، التي تعود إلى مستوياتها في إنتاج لحم الخنازير مع انحسار أسوأ آثار حمى الخنازير الإفريقية. وجاء أكثر من نصف الزيادة، البالغة 42 مليون طن في واردات الذرة على مستوى العالم خلال السنوات الخمس الماضية، من الصين وحدها.
منتجات الألبان: كانت أسعار الحليب في حالةٍ سيئة هذا العام. بلغت مزادات الحليب المُجفَّف الأسبوعية في نيوزيلندا، وهو نوعٌ من المعايير القياسية لهذه الصناعة العالمية، ذروتها عند 4364 دولاراً للطن المتري، في مارس/آذار، وهو أعلى مستوى لها منذ العام 2014. وكما هو الحال في العديد من أسواق السلع الأساسية، فإن السبب هي الصين.
ارتفاع الدخل يعني ارتفاع مبيعات المنتجات من الكعك والمعجَّنات إلى شاي الفقاعات التايواني- جميع السلع التي تدخل فيها الدهون والمواد الصلبة للألبان. تُعتَبَر هذه المنتجات إلى حدٍّ بعيد أهم محرِّكٍ للطلب على منتجات الألبان. حتى الولايات المتحدة لا تستهلك أكثر من سُبع إنتاجها من منتجات الألبان كحليبٍ سائل.
وكافحت الصين، التي تأثَّرَت بالقيود على توافر الأراضي وإنتاج الأعلاف الحيوانية، من أجل زيادة الإنتاج الحيواني. وانخفض قطيع الألبان فعلياً من 8 ملايين إلى 6.2 مليون بقرة بين عامي 2016 و2020، رغم أن الإنتاج تمكَّن من الزيادة بطيئاً، حيث ركَّزَت الصناعة على الماشية الأكثر إنتاجية.
لحم الخنزير.. الطبق الرئيسي في الصين
في أغسطس/آب الماضي، استغرق الرئيس الصيني شي جين بينغ وقتاً منفصلاً عن إدارة الجائحة والحرب التجارية المريرة، من أجل إطلاق حملة تشجِّع الصينيين على تناول وجبات أكثر صحية.
ولم يكن التوقيت من قبيل المصادفة، ففي يوليو/تموز ارتفع سعر لحم الخنزير، وهو البروتين الأساسي في الصين، بنسبة 85.7% عن العام السابق، ما ساعد على رفع معدل التضخُّم الإجمالي بنسبة 2.7%. كان السبب الأهم هو تفشي حمى الخنازير الإفريقية منذ عامين، تلك الحمى التي قضت على ما يصل إلى 60% من قطيع الخنازير في البلاد.
ولعقودٍ من الزمن، كان للحم الخنزير تأثيرٌ كبيرٌ على موائد العشاء الصينية وعلى السياسة كذلك. عندما يرتفع السعر بسرعة يصبح ذلك رمزاً قوياً للأجور والركود الطبقي، لكن مخاوف الطبقة الوسطى التي يسبِّبها تضخُّم الغذاء الصيني قد تقوِّض ببطء المصداقية التي تتمتَّع بها الحكومة، التي قدَّمَت أداءً اقتصادياً قوياً لفترةٍ طويلة.
منذ بداية العام الجاري، تعافت الخنازير في الصين بسرعة من حمى الخنازير الإفريقية، ونتيجة لذلك أدَّى البيع المذعور من جانب المزارعين، الذين توقَّعوا ارتفاع الأسعار، إلى انخفاض أسعار لحم الخنزير بشكلٍ كبير خلال عام 2021. لا أحد يعتقد أن الأسعار المنخفضة سوف تستمر إلى الأبد، والحكومة أيضاً لا تعتقد ذلك. أعلنت الحكومة الشهر الماضي أنها تعد سياساتٍ للتعامل مع عدم استقرار الأسواق في المستقبل، وحتى الآن لا تُعتَبَر الأطباق الصحية جزءاً من حزمة السياسات.
هل يؤدي الجوع للثورة؟
تكمن مشكلة ارتفاع أسعار المواد الغذائية في أن العبء لا يقع بالتساوي على جميع الناس. ومن المُتوقَّع أن ترتفع تكلفة الواردات الغذائية، التي تغذي أربعة أخماس العالم، إلى 1.7 تريليون دولار هذا العام، وفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة.
وبتفصيل هذا الأمر، نجد أن فاتورة الاقتصادات الناشئة قفزت بأكثر من الخُمس، مقارنةً بزيادةٍ قدرها 6% للبلدان الأكثر ثراءً، يمثِّل الغذاء بالفعل جزءاً أكبر بكثير من الإنفاق المحلي في البلدان النامية، وقد تضرَّرَت العديد من البلدان من الجائحة التي أعاقت التنقُّل والعمل غير الرسمي.
والنتيجة من ذلك مزدوجة. أولاً هناك خطر حدوث اضطرابات، واجَهَ ما لا يقل عن 155 مليون شخص جوعاً حاداً في العام الماضي، بزيادةٍ قدرها 20 مليوناً عن عام 2019.
وعادة لا يشعل الناس أعمال شغبٍ بشأن الطعام، وفي الواقع نادراً ما يفعل الجوعى ذلك على الإطلاق. لكنهم ينتفضون ضد الظلم الذي يعيق حقهم في الحصول على تغذيةٍ ميسورة التكلفة.
لكن البطون الجائعة الغاضبة لا تميل إلى الجلوس بهدوء، من روما القديمة إلى العصر الذهبي لاحتجاجات الطعام الإنجليزية، إلى أعمال الشغب بشأن الخبز في بتروغراد 1917، إلى الاضطرابات في الهند، والاضطرابات التي اندلعت في 14 دولة إفريقية وبلدان أخرى عندما ارتفعت الأسعار عالمياً في عامي 2007 و2008، وصولاً إلى الاحتجاجات على نقص الغذاء التي ضربت كوبا في مطلع الأسبوع الجاري.
ومع ذلك، فإن المشكلات الصامتة التي تتراكم على المدى الطويل ينبغي أن تثير القلق بشكلٍ أكبر، لقد تعرَّضَ رأس المال البشري للدول النامية لضرباتٍ شديدة، ابتعد الأطفال عن المدارس، دون استبدالٍ موثوق عبر الإنترنت. هذا علاوة على تكلفة سوء التغذية التي ستتبع هذا النوع من الارتفاع في الأسعار، حيث تُستبدَل الخضراوات والفواكه الطازجة ويحل محلها النشا.
وربما يؤدي اجتماع كل تلك العناصر معاً إلى رسم صورة مقلقة عما قد تقود إليه مزيد من الارتفاعات في أسعار المواد الغذائية، خصوصاً في الدول الأكثر محدودية في دخلها ومواردها، فهل يمكن أن يشهد العالم "ثورة جياع" قريباً؟