كانت الساعة تشير إلى السادسة مساءً تقريباً في الرابع من آب (أغسطس) 2020. كنت في اجتماع عمل، في منزل والديّ، عبر منصة الزوم مع زميلين، أحدهما في الولايات المتحدة والآخر في كندا. صيف لبنان لاهب، وأزماته تتزايد، أزمة سياسيّة وأزمة اقتصاديّة وأزمة اجتماعيّة. نقصٌ في الغذاء وتقنينٌ في الكهرباء. مصارف متوقفة عن الدفع، مظاهرات متفرقة في أحياء بيروت وباقي المناطق، وغضب على طبقة سياسيّة تحكم هذا البلد منذ عقود.
تحرَّك البناء فجأة وأحسست بالجدران تتحرَّك بعنف. "إنه زلزال"، صرخ أفراد المنزل من أماكن تواجدهم في الغرف المجاورة. أبي المسنّ الذي كان لا يقوى على الحركة إلا بصعوبة قفز من مكانه ناسياً أوجاعه، بكاء وصراخ من بيتنا وبيوت الجيران، الستارة الرمادية العتيقة التي تستر حَرَّ آب "اللَّهَّاب" طارت في الهواء كريشة. جدار إسمنتيّ تهاوى من الشرفة إلى الشارع، زجاج تطاير في الأنحاء.
بعد لحظات سمعتُ صوتاً عنيفاً حسبته نابعاً من طائرة حربيَّة. بدأ الصوت بعيداً، وفي خلال أجزاء من الثانية سمعت صوتاً رهيباً، "إننا نتعرض لاجتياح"، أبلغتُ زملائي، أنهيت اجتماعي على مضض؛ إذ أحسستُ برغبة دفينة في إخبار هؤلاء في الطرف الآخر من العالم عمَّا أراه، أحسستُ أنّني قد لا أعيش لأخبرهم عمَّا يجري.
لا أدري لماذا اخترت كلمة "اجتياح" (بالإنجليزية Invasion) لأعبِّر عن إحساسي في ذلك الوقت. مرَّت ذكريات الحرب اللبنانية كشريط سريعٍ في مُخيِّلتي. خَبِرتُ اجتياح إسرائيل للبنان في العام 1982 ومحاصرتهم لبيروت. شهدت قصف الطائرات والبارجات الحربية والدقائق الأولى لاجتياح بيروت، عندما دُمِّرت المدينة الرياضية في قصف عنيف، ولا أنسى القنبلة الفراغية التي ألقاها الطيران على مبنى يبعد مئات الأمتار عن منزلنا فدمرته على رؤوس ساكنيه الأبرياء. علمنا لاحقاً أنهم اشتبهوا بأنّ قائد منظمة التحرير -أبو عمار – كان يختبئ في ذلك المبنى. كل تلك الأحداث والصوت الرهيب لذلك الانفجار أعادني أربعة عقود إلى الوراء، "إنه اجتياح"، هذا ما بدا لي في تلك اللحظة، ضاعت الكلمات ونحن نحاول أن نفهم ما جرى، إنها إسرائيل التي احتلَّت ذاكرتنا الجماعية.
في لحظة "القصف" أو "الانفجار" تلك، مررتُ بسرعة على أهل البيت لأطمئنَّ عليهم، والدي ووالدتي وشقيقتي كلهم مذهولون، ولكن بخير، ولم أعِ من هول الصدمة حتى بدأت رحلة البحث عن سائر أفراد عائلتي، زوجتي وأولادي الخمسة، ابني البكر، طالب الطب، كان أوّل المتصلين، أبلغني أنه بخير في الجامعة القريبة نسبياً من مكان الانفجار، اطمأننتُ عليه بسرعة قبل أن أبادر بالاتصال لأطمئنَّ على حال ابنتَيَّ، تبيّن أنّهما بخير، لم تفهمْ ابنتي الصغيرة معنى الانفجار، ولكن رباطة جأش أختها الكبرى وفَّرت لها بعض الأمان.
حاولت الاتصال بزوجتي وباقي أبنائي بدون طائل، الضغط كبيرٌ على الخطوط الهاتفية بما يتجاوز قدرة الشبكة، بعد حوالي الربع ساعة من الانتظار تلقيت اتصالاً من زوجتي التي كانت في أسواق بيروت القريبة جداً من الانفجار، أبلغتني بأنها سليمة مع أحد أبنائي في مرأب تحت الأرض، استقلَّت سيارتها وعلى مدخل المرأب، وسط الحطام، وجدت إحدى الشابات تمشي على غير هدى تستغرق في البكاء وتصرخ طلباً للنجدة، أشارت عليها زوجتي بأن تستقلَّ السيارة معها، ركِبت الفتاة السيارة بدون تردد، غادرت زوجتي المكان وسط الزجاج المتناثر والحطام في قلب بيروت، اطمأننتُ إلى أنَّها بخير.
بقيت عملية البحث عن ولدي الثاني ولم تفلح عشرات الاتصالات في الوصول إليه، انتابني شعور بالخوف الشديد، بعد حوالي ساعةٍ مَرَّت كدهر تسلمت اتصالاً منه، علمت لاحقاً أنه كان قريباً جداً من مكان الكارثة، كان يقود سيارته عند حصول الانفجار، ولمْ يحس إلا وسيارته تندفع بقوةٍ بالغةٍ إلى الأمام، وظنَّ أن شاحنةً قد صدمته بعنف من الخلف، أكمل مسيره وسط عشرات السيارات المتحطمة، بين النّاس والجرحى المذهولين من الانفجار. أصيبت السيارة بأضرار جسيمة، ولكن محركها استمر في العمل، واستطاع مغادرة المكان، عندما شاهدتُ السيارة في اليوم التالي علمت يقيناً بأنَّ الله تَلَطَّفَ في أقداره، عاد الخوف إلى قلبي وتخيّلت خسارتي له، أحسست بفراغٍ في قلبي، وحمدت الله.
بعد أسابيع من الانفجار تُوفّي والدي، لعلّه لم يتقبّل ما حدث لِبيروت، وما أصاب قَلْبها الذي نشأ فيه صبياً، وعمل فيه رجلاً، وشهد على إعادة بنائه بعد الحرب اللبنانيّة المشؤومة. تغيَّر سلوكه بعد الانفجار، خَفَّ طعامه، وتدهورت صحته، ولا ندري أكان ذلك الانحسار في نشاطه وشغفه بالحياة نتيجة طبيعية لتقدمه المتزايد في العمر، أم لعلّه ردة فعلٍ لا إراديّة، بأنّ من عاش في بيروت، في صخبها وحركتها، وأنوارها ولياليها، وشبابها وشموخها، لن يَقْوَ على تحمل فاجعةٍ مثل فاجعة ذلك الانفجار، فارتقى إلى خالقه بعد 4 آب (أغسطس) بأسابيع قليلة.
في ذلك اليوم قُتل حوالي 200 شخص، وجُرح الآلاف من ساكني بيروت، ولكن عدد شهداء 4 آب أكبر من ذلك العدد بكثير، هم أنتم، هُم نحن، هُم كُلُّنا، في 4 آب قُتِل بعضٌ مِن كلِّ واحدٍ منّا، لم يخرج أحد منّا سالماً ذلك اليوم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.