أنظر اليوم إلى كوب الماء وأنا أشرب بنظرة مختلفة، أتباطأ قليلاً وأستطعم قليلاً، وأذهب بعقلي بعيداً، أجلس على ضفاف النيل مازحاً مع أصدقائي: "هي هتبقى آخر مرة ولا إيه؟".
أتساءل داخل عقلي هل يمكن أن يتحول استفهام الفنانة شيرين عبدالوهاب "ماشربتش من نيلها؟" إلى جملة خبرية لدى الأجيال القادمة؟ فتكون "ماشربتش من نيلها".
هل يمكن أن تتحول جملة "النيل نجاشي" كما غنى عبدالوهاب؟ إلى "النيل مجاشي"؟ هل نحن نعيش الواقع؟ أم أنه مجرد كابوس؟ أم أن الكابوس قد اخترق حدود الواقع وتسلل وامتزج به حتى نعيشه؟ فلو كان واقعاً فهو الأكثر رعباً، ولو كان كابوساً فهو الأبشع أثراً، ولو كان مزيجاً بينهما فلا كلام يمكنه وصف ما بداخلي على الإطلاق.
إخواني أبناء جيلي أصحاب المعاناة الدائمة، يبدو أنه قد كُتب علينا العناء حقاً، كان لا يمكن أن ينتهي العمر دون تجربة كهذه، فثورات قد عشنا، وباء عالمي وقطع علينا الطريق، إذاً ماذا ينقصنا سوى حرب من أجل الوجود؟
بعيداً عن المزاح قد يكون ذلك هو المنعطف الأخطر في تاريخ حياتنا، ليس تقليلاً من صعوبة منعطفاتنا السابقة، ولكن لأن هذا المنعطف وحده تحديداً سوف يحدد وجود كل الأجيال بعدنا، موقفنا الآن وحده هو الذي سيحدد.
فالأمر لا يتعلق بمياه الشرب فقط، الأمر يتعلق باقتصاد برمته قد يصاب بخلل غير مسبوق، غير تأثر الزراعة وممتهنيها تأثراً جذرياً، تخيل معي على وجه البساطة إذا كنت مزارعاً على ضفاف النيل تستيقظ في الصباح مبكراً فلا تجد ماء في الصنبور كي تغتسل وتقوم إلى عملك في نشاط، وإذا تغاضيت عن ذلك وخرجت توفيراً للوقت لن تجد ماء كي تروي به أرضك، وإذا أردت أن تشرب كوباً من الماء بعدما عرفت ذلك ليروي عطشك ويهدئ روعك لن تجده أيضاً!
ومن بعدك المسؤولون عن الحصاد والتوزيع، ومن ثم بقية أطياف الشعب التي لن تجد محاصيل كثيرة من أجل طعامها وعلى نفس المنوال لن يجدوا ذلك الكوب من الماء الذي قد يجعلهم يتجرعون ذلك في صمت تام.
وفقاً لدراسة Environmental Research Letters في يونيو/حزيران الماضي، فإن متوسط إجمالي عجز الميزانية السنوية المتوقع للمياه في مصر خلال فترة الملء قد يصل إلى قرابة 31 مليار متر مكعب في السنة، وهو ما يتجاوز ثلث إجمالي ميزانية المياه الحالية لمصر.
على إثر ذلك، فإن الرقعة الزراعية المصرية مهددة بالتراجع بنسبة مقلقة، قد تصل إلى 72%، كما يُتوقع أن ينخفض الناتج القومي للفرد في مصر بنسبة قد تصل إلى 8%!
وكما قال شاعرنا الأستاذ مصطفى إبراهيم:
النظام العالمي بيقتل
أوقات كتير..
من غير رصاص
الهوا..
هيحَصّل المَيّة اللي بقت ماركات
وبدون مبالغة إذا تركنا أمر المياه هكذا وبقي منا من بقي على قيد الحياة، فأنا واثق تماماً أن الهواء سيتحول سلعة مثله مثل الماء في وقت ليس ببعيد.
صدقاً لا أحب أن أفتي فيما لا أفقه فأنا لست خبيراً عسكرياً ولا مسؤولاً دبلوماسياً، ولكنني أملك عقلاً ضئيلاً وقلباً كبيراً محباً، ورغبة في الحياة والوجود قدر المستطاع، لذلك حتى ينقطع صوتي، وحتى ينفد الحبر في قلمي وحتى يجف دمي سأقف بكل ما أملك دفاعاً عن حقنا في مياه النيل مهما كلف الأمر.
وأرى أن المواقف التي تتخذها الدولة حتى الآن هي مواقف تخاطب المنطق المفروض علينا من العالم حولنا، لأننا لا نعيش بمفردنا، نحن نعيش تحت أحكام عالم أشبه بخشبة المسرح لا يجب الخروج فيه عن النص ولا التسرع في أداء الدور المطلوب ولا إلقاء الجملة المنتظرة في موضع غير موضعها بغض النظر عما يحدث خلف الكواليس، صدقاً لا أعلم ما يحدث خلف الكواليس، ولكن أتمنى أن يخيب ظن المتشائمين ويرجح ظن المتفائلين ونصفق جميعاً احتفاء بما سيحدث في النهاية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.