هل يجب أن تتوقف حياتنا العادية من أجل غزة؟

عربي بوست
تم النشر: 2024/03/28 الساعة 11:34 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/03/28 الساعة 11:34 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية/shutterstock

في العام 2017 قُدّر لي زيارة العاصمة الأوكرانية كييف، وكان ذلك بعد أن احتلت روسيا جزيرة القرم، وقبل أن تتوسع الحرب حتى وصلت للعاصمة في سنوات لاحقة. ومما لفت انتباهي وأثار استغرابي حينها أنه باستثناء الانتشار العسكري الواسع في المدينة، لا يمكنك أن تشعر بأن هذا البلد في حالة حرب، كانت كييف تعيش في عالمها بعيداً عن الحرب في نشاطات حياتية وعملية واجتماعية وسياحية، في حركة دائمة وطبيعية في ظاهرها، حتى النشاطات الرياضية، ففي إحدى الليالي، وبعد منتصف الليل، كانت أصوات الموسيقى والغناء والاحتفالات الصاخبة تصل من الاستاد الرياضي الذي يبعد عدة شوارع إلى الفندق الذي أقيم فيه، فأتساءل: هل هم في حالة حرب حقاً؟!

نقلتُ هذا السؤال إلى شابة أوكرانية، لا يمكنني أن أنسى محيّاها الجميل الغارق في حزنٍ لا تخطئه العين، رغم أنها تحاول ألّا تظهره، وكانت هذه الشابة هي المرشدة السياحية لرحلتنا هناك في كييف، أجابتني: نعم ما تقولينه صحيح، وهذا شيء محزن، فحكومتنا تجتهد جداً لتجعلنا نعيش حياةً عاديةً بعيدةً عن الحرب، ولكن هناك جزء من البلاد والشعب يعاني من هذه الحرب، فكيف يمكن بعد أن تنتهي الحرب أن يعيش هذان الجزءان من الشعب معاً بشكل طبيعي، وهم كانوا يعانون وحدهم، ولم نشعر بهم أو نشاركهم أَلمهم، فكيف نعود بعد ذلك شعباً واحداً؟!

أعود كثيراً بأفكاري إلى قولها هذا، وأتذكره كثيراً الآن ونحن نعاني ما نعانيه من عدوان إسرائيل على غزة منذ طوفان الأقصى، أو لعل الصواب هو القول: وأهل غزة يعانون ما يعانونه من عدوان الإسرائليين منذ طوفان الأقصى. ذلك الشرخ الذي يحدث لنا لا تعمقه الجغرافيا والبعد المكاني، وليس نتيجة السياسة التي قسمت أمة واحدة إلى قوميات وطنية عديدة، السبب في حالة الانقسام هذه هو الاقتصاد! 

حياتنا العادية غزة
فلسطينيون يبحثون عن ضحايا في موقع غارات إسرائيلية على منازل في مخيم جباليا للاجئين في شمال قطاع غزة -رويترز

لماذا أقول إن الاقتصاد هو السبب؟ لأن ما يمنعك من البقاء في حالة شعور بآلام إخوتك الذين يتعرضون لإبادة جماعية وهم تحت حصار شديد هي حاجتك إلى أن تعود إلى حياتك الطبيعية! بعد كل المشاهد الكارثية للإجرام والغدر الإسرائيلي التي رأيتها، تعمل، تشتري، تبيع، تأكل، تنام، تخرج، تدخل، تسافر، وكثيراً ما تتسلى أو تبحث عن الترفيه، ودعوني أقُل إن هذا أسوأ أنواع التطبيع التي نمارسها نحن الشعوب مع الوجود الصهيوني في جسد عالمنا العربي والإسلامي، إنه التطبيع مع الحياة العادية (أو الطبيعية) في زمن الحرب.

ما العيب في استمرار الناس في الحياة رغم الحروب والكوارث؟ أليس هذا ما يجب علينا فعله، أن نستمر بالحياة حتى ننتصر، فلا يُعقل أن يكون واجباً علينا أن نغرق في البكاء والنحيب ونوقف كل أعمالنا ومصالحنا، فذلك سيجعلنا في حالة دمار مرتين، مرة بسبب الحرب، ومرة بسبب توقفنا عن العمل، أليس كذلك؟! حسناً، يمكنني سماع كل هذه الأسئلة التي يمكن أن تطرحوها أو تدور في أذهانكم حول كيف للحياة العادية أن تكون شكلاً من أشكال التطبيع؟ وما الذي يُفترض فعله غير أن نستمرّ في الحياة؟ ولعلني أجيب عن هذه الأسئلة من ثلاثة جوانب: لماذا التطبيعُ مع الحياة العادية زمنَ الحرب أمرٌ سيئ؟ هل نحن مطبعين مع الحياة العادية حقاً؟ وكيف يجب أن نحيا في زمن الحرب نحن البعيدين عن قنابلها وتفجيراتها؟

لعله من المهم للغاية أن أشير إلى أنني حين أستخدم عبارة "التطبيع مع الحياة العادية" فإنني أركز بالأساس على الجانب الاقتصادي لحياتنا، لماذا؟ أولاً: لأننا نعيش في عالم يحكمه النظام الرأسمالي، ويؤثر بشكل كبير في جميع أركان الحياة الأخرى، مثل الثقافة والفنون والعلوم والاجتماع، وحتى السياسة. ثانياً: لأن حياتنا الاقتصادية من عمل وتجارة ومصالح اقتصادية أخرى تعد بمثابة الجزرة والعصا، التي تستخدم من أجل السيطرة على الشعوب ومنعها من الاتجاه لمقاومة العدو؛ خوفاً على مصالحها ومستوى معيشتها. ثالثاً: أجد أن حب الدنيا الذي ذكره النبي الكريم في حديثه الشريف، موضحاً أنه أحد السببين في كون الأمة غثاءً رغم كثرة عددنا، يَظهر في أعمق صورِهِ في زمننا هذا، من خلال ذلك التعلق بمصالحنا ومكاسبنا الاقتصادية التي نركض خلفها في السباق الرأسمالي المحموم.

التطبيع مع الحياة العادية في زمن الحرب من أهم أسباب الهزيمة والانكسار. بينما عدونا يزداد إجراماً ووحشية، ويدنو الخطر منا أكثر فأكثر، نستمر نحن في السعي والعمل على تحصيل مقتضيات العيش أو تحسين مستواه. سيكون جنوناً لو أن شخصاً استمر بالعمل بشكل طبيعي رغم أن المبنى الذي هو فيه آخذٌ في الاشتغال والاحتراق، لكننا لا ندرك أن حالة الحرب هي شبيهة بذلك، فنستمر بالعمل، ورسم أحلامنا المستقبلية، لمستقبلٍ يمكن أن يمحوه ما يحدث اليوم إذا ما انتصر العدو، وهذا ما يجعل الحياةَ العادية سُماً يُدسُّ في العروق ببطء حتى الموت، ولات حين مناص. 

إما إن كنت تشكك في أننا مطبعون، وتقول نحن نعمل لأننا نحتاج للعمل، وليس رغبةً منا في التطبيع وتجاهل حقيقة أن الحرب تشتعل بجوارنا، فسوف أترك مشاهدات سلوكنا الاقتصادي في شهر رمضان الفضيل تجيب عن سؤال: هل نحن مطبعين مع الحياة العادية؟ فاسأل نفسك وانظر حولك، ماذا تغيّر في رمضانك بعد طوفان الأقصى؟ هل صرتم تكتفون باليسير من الطعام في موائدكم بدل الإسراف المعهود في الشهر الفضيل؟ هل تركت هذا العام متابعةَ برامج الترفيه والهرج، ومسلّيات الفوازير والدراما؛ لأنك تشعر بخطورة الزمن ومرحلة صراعنا مع العدو الصهيوني؟ هل صرت حريصاً على البحث ومتابعة أصحاب الفكر الذين يسعون لنشر الوعي، وتقديم الحلول، أو الحشد لمشاريع داعمة لقضيتنا الفلسطينية؟ هل تُخصص وقتاً من وقتك للاشتغال بالبحث عمّا يمكن فعله لنصرة قضيتنا، بدل أن تستهلك يومك بين ساعات العمل، والاستراحة منه، وبرامج رمضان المعتادة؟ هل غيَّرت الحربُ الدائرة أيَّ شيء في طريقة استهلاكك، وإنفاقك، وعملك؟ هل رمضانك هذه السنة مختلف عن العادة بسبب غزة؟ فإن كانت إجابتك عما سبق هي: لا، أليس هذا تطبيعاً مع الحياة العادية؟! نستمر بها، بحسب ما اعتدنا عليه، دون السعي للوصول لطوق نجاة مما نحن فيه، هذا الشكل من التطبيع الاقتصادي الذي تمارسه الشعوب وليست الأنظمة يجعلنا فريسةً سهلةً وضعيفةً أمام عدو متوحش ومجرم، لأننا لم نُعدّ له أيَّ عدة، وأكملنا الحياة، أي حياة؟ حياة لن تكتمل لنا يوماً!

فما الذي علينا فعله، وكيف نستمر في هذه الحياة زمن الحرب؟ ببساطة علينا أن نحارب الرأسمالية في حياتنا العادية، فالقوة الرأسمالية هي وقود الإمبريالية الأمريكية، والاحتلال الصهيوني. فحتى رمضان وهو شهر الفريضة والفضيلة تحوّل إلى سلعة رأسمالية، ويمثل واحدةً من أسوأ ما أصابنا من لوثات الرأسمالية، التي تريد غالبيتنا مستهلكين بلا هدى، ومنتجين بلا قيمة. 

تَغيَّر، غيِّر عاداتك التي تُخضعك لسطوة الرأسمالية، لا تُحقق أهدافَها بأن تكون مستهلكاً أكثر وأكثر، أو تجعلك ترساً في ماكينتها الإنتاجية التي تُهلك العاملين فيها. بوضوحٍ أكثر، غيِّر مبادئك الاقتصادية إلى مبادئ معاكسة لمبادئ السيطرة الرأسمالية، اجعل استهلاكك يقوم على مبدأ الكفاية، اعرَف حدود ما يكفيك، ومبدأ عدم الإسراف، أوقف الهدرَ والفائض عن الحاجة، ومبدأ الغاية النافعة للاستهلاك فلا يكون استهلاكك فقط حرقاً للوقت والمال، والتحرك بلا بصيرة مع الموضة والهبات التسويقية، واجعل لعملك قيمةً تعيشُ بعدَك، أو أن تحقق إنتاجاً حقيقاً، أو كن مالكاً لما تُنتج، أو مالكاً لوسائل إنتاجك، أو في أضعف الأحوال استعِد جزءاً من يومك المسلوب، لتعمل شيئاً لقضاياك وقضايا أُمتك، لا تُنهِ يومكَ وكأنك ترسٌ آلة مكسور. الخلاصة قاوِم عدوَّك اقتصادياً بكل أشكال المقاومة، وليست المقاطعة فحسب، بل بعدم التطبيع مع الحياة الاقتصادية الرأسمالية المعتادة. 

لعله يظهر لك الآن عمق الشرخ بيننا وبين غزة، التي تتسحر ماءً وتُفطر ماءً، ولعل ما بقي لك من رمضان يجيبك عن كيف نعود بعد ذلك شعباً واحداً، وأمةً واحدة؟!.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تهاني زاهر
باحثة اقتصادية
باحثة اقتصادية
تحميل المزيد