بعد إلغاء صفقة القرن الفرنسية مع أستراليا.. هل تُقنع باريس أوروبا بالاستقلال العسكري عن أمريكا؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/09/18 الساعة 20:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/09/18 الساعة 21:23 بتوقيت غرينتش
إلى أين قد تصل الأزمة بين باريس وواشنطن؟ /رويترز

"فرنسا تستدعي سفيرها لدى الولايات المتحدة؛ للتشاور، لأول مرة في تاريخها الحديث"، كان هذا التصرف مُعبراً عن مقدار غضب باريس من قرار إلغاء أستراليا صفقة الغواصات الفرنسية لصالح بديل أمريكي بريطاني يعمل بالطاقة النووية.

ولكن خسارة باريس الاستراتيجية من إلغاء أستراليا صفقة الغواصات الفرنسية أكبر من عشرات المليارات التي كانت ستتكلفها الصفقة التي كانت توصف بصفقة القرن الفرنسية الأسترالية.

إن خسائر فرنسا تعني فعلياً، تهميشها في التحالف الغربي الواسع الذي تقوده الولايات المتحدة، ومن المتوقع أن تراهن على تعزيز التحالف الأوروبي بعيداً عن الولايات المتحدة وبريطانيا، ولكن هذا الرهان أيضاً قد يبدو غير مضمون، لأنه يتناقض مع حقائق الجغرافيا الأوروبية التي تجعل أولويات باريس غير أولويات برلين وأغلب عواصم أوروبا.

إلغاء أستراليا صفقة الغواصات الفرنسية يثير صدمة في باريس

وجاء إلغاء أستراليا صفقة الغواصات الفرنسية مؤخراً بالتزامن مع إعلان الولايات المتحدة عن اتفاق مع المملكة المتحدة وأستراليا لبناء غواصات تعمل بالطاقة النووية.

لكن الصفقة الأمريكية البريطانية مع أستراليا تدور حول أكثر بكثير من الغواصات. تبدو اتفاقية الدول الثلاث كأنها خطوة أخرى من جانب الولايات المتحدة لبناء تحالفات لمواجهة نفوذ الصين في المحيط الهادئ وعلى الصعيد العالمي.

إن قرار تزويد أستراليا بغواصات تعمل بالطاقة النووية- وهو خطوة رئيسية نحو مواجهة الصين، حيث يعمل الرئيس الأمريكي جو بايدن، على بناء دعم دولي لنهجه مع بكين- جزء من شراكة ثلاثية جديدة بين الولايات المتحدة وأستراليا والمملكة المتحدة، يطلق عليها اسم "AUKUS"، حسبما ورد في تقرير لموقع شبكة "CNN" الأمريكية.

وهذا هو محور السياسة الخارجية للولايات المتحدة الآن، لكنه أدى إلى انقسام بين الحلفاء الغربيين، فالبعض أكثر استعداداً من البعض الآخر للانحياز إلى نهج أمريكا بالتركيز على منطقة آسيا والمحيط الهادئ، حسبما ورد في تقرير لموقع Npr الأمريكي.

إذ كانت بريطانيا أكثر حرصاً على الانضمام إلى أمريكا، بينما غضبت  فرنسا بعدما بدا أنها أقل أهمية لأمريكا في تصورها لخريطة تحالفاتها المستقبلية.

"خيانة وطعنة في الظهر"

وقال مسؤولون فرنسيون رفيعو المستوى إن إلغاء أستراليا صفقة الغواصات الفرنسية، والصفقة الأمريكية البريطانية البديلة كانا "طعنة في الظهر وخطوة تُظهر نقصاً في الاتساق".

ورداً على الاتفاقية الثلاثية، قال مسؤول فرنسي لشبكة CNN يوم الجمعة، إن فرنسا استدعت سفيرها لدى الولايات المتحدة؛ "للتشاور"، في إشارة إلى ما يُعتقد أنه المرة الأولى التي يلجأ فيها الفرنسيون إلى مثل هذه الخطوة في العصر الحديث.

وقال المسؤول إنه تم أيضاً استدعاء السفير الفرنسي لدى أستراليا.

وألغت الحكومة الفرنسية أيضاً حفل استقبال بالسفارة الفرنسية في واشنطن العاصمة، وخففت احتفالات إحياء ذكرى الانتصار البحري في الحرب الثورية من قِبل الفرنسيين والذي ساعد الولايات المتحدة في الحصول على استقلالها.

لماذا تبدو فرنسا غاضبة جداً من الصفقة الثلاثية؟ خسائر مليارية واستراتيجية

تخسر باريس ما يعادل 65 مليار دولار أمريكي من إلغاء أستراليا صفقة الغواصات الفرنسية التقليدية العاملة بالديزل.

الصفقة الفرنسية الأسترالية تم التوقيع عليها في عام 2016، وكانت مدتها 50 عاماً، وكان هذا سيعني نقل التكنولوجيا الفرنسية، وتوفير فرص هائلة لقطاع الدفاع الفرنسي.

وكانت الصفقة مع باريس قيد الإعداد منذ سنوات، حيث خططت أستراليا للحصول على 12 غواصة تقليدية هجومية من شركة بناء السفن الفرنسية Naval Group، والتي تفوقت بنجاح على العطاءات الألمانية واليابانية المنافسة في عام 2016.

إلغاء أستراليا صفقة الغواصات الفرنسية
أستراليا فضلت الغواصات الأمريكية العاملة بالطاقة النووية على الفرنسية العاملة بالديزل/ويكيبيديا

ومن المتوقع أن يكون للصفقة الملغاة مع فرنسا، تأثير اقتصادي كبير على قطاع الدفاع الفرنسي. كما أن فرنسا ستخسر استراتيجياً في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، حيث تمتلك مصالح كبيرة.

وقال وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، إنه "غاضب" بشأن اتفاقية الغواصة الأسترالية الجديدة، وأضاف: "هذا لا يحدث بين الحلفاء. إنها حقاً طعنة في الظهر".

كما وجَّه وزير الخارجية الفرنسي كلمات قوية للولايات المتحدة، قائلاً: "هذا القرار الوحشي والأحادي الجانب يشبه كثيراً ما يفعله الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي كان يُنتقد في واشنطن لميله إلى اتخاذ قرارات أحادية بعيدة عن الحلفاء في أوروبا".

ولكن ترامب لم يقْدم على خطوة بهذا الحجم.

كما أصدر لودريان بياناً مشتركاً مع وزيرة القوات المسلحة الفرنسية فلورنس بارلي، الأربعاء الماضي، جاء فيه أن "الخيار الأمريكي باستبعاد حليف وشريك أوروبي مثل فرنسا من شراكة منظمة مع أستراليا، في وقت نواجه فيه تحديات غير مسبوقة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، سواء من حيث قِيمنا أو من حيث احترام التعددية القائمة على سيادة القانون، يُظهر نقصاً في الاتساق لا يمكن لفرنسا إلا أن تلاحظه وتندم عليه".

أستراليا تقول إن العقد مع باريس يسمح لها بالانسحاب

اللافت أن إلغاء أستراليا صفقة الغواصات الفرنسية جرى بشكل من السرية، تزعم الولايات المتحدة أنها أبلغت فرنسا، لكن فرنسا تقول: "لا على الإطلاق. لقد صدمونا!". 

وقال لودريان إن قرار أستراليا الانسحاب من الاتفاق مع فرنسا "يتعارض مع روح التعاون الذي ساد بين فرنسا وأستراليا"، لكن أستراليا أكدت أن هناك أجزاء من عقدهما تسمح لها بالخروج من الصفقة.

ترى أستراليا والولايات المتحدة الأشياء بشكل مختلف، وأشار الأمريكيون والأستراليون إلى أن الحكومة الفرنسية لم تفاجأ بفسخ العقد الأصلي، قائلين إن مسؤولين فرنسيين رفيعي المستوى أُبلغوا بقرار الحكومة الأسترالية.

وقال رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون، يوم الجمعة: "تم نقل هذا مباشرةً إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ونُقل مباشرةً إلى وزير الخارجية ووزير الدفاع".

وقال موريسون إنه عندما التقى الرئيسَ الفرنسي إيمانويل ماكرون، أواخر يونيو/حزيران 2021، لمَّح له بالأمر قائلاً: "لقد أوضحت تماماً- لقد تناولنا عشاء مطولاً هناك في باريس- بشأن مخاوفنا البالغة الأهمية بشأن قدرات الغواصات التقليدية للتعامل مع الاستراتيجية الجديدة في ظل الظروف التي نواجهها. وقد أوضحت تماماً أن هذه مسألة ستحتاج أستراليا اتخاذ قرار بشأنها من أجل مصلحتنا الوطنية".

وقال وزير الدفاع الأسترالي بيتر داتون، في مؤتمر صحفي، الخميس، إن قرار اختيار الغواصة الأمريكية التي تعمل بالطاقة النووية على الغواصة الفرنسية التقليدية التي تعمل بالديزل، "يستند إلى ما هو في مصلحة أمننا القومي".

جادل دوتون بأن "الفرنسيين لديهم نسخة لم تكن أفضل من تلك التي لدى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. وفي النهاية، فإن القرار الذي اتخذناه يستند إلى ما هو في مصلحة أمننا القومي".

جاء إعلان AUKUS أيضاً قبل يوم واحد من استعداد الاتحاد الأوروبي لتقديم استراتيجيته المرتقبة لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ.

ووصف البيان المشترك مع لودريان، فرنسا بأنها "الدولة الأوروبية الوحيدة الموجودة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ويبلغ عدد سكانها ما يقرب من مليوني مواطن وأكثر من 7000 عسكري"، وأكد البيان أن فرنسا "شريك موثوق به سيستمر في الوفاء بالتزاماته، كما فعلت دائماً".

كما سعى وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، إلى التقليل من أهمية الخلاف بين الولايات المتحدة وفرنسا، مشددًا على أهمية باريس "كشريك حيوي" في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وحول العالم.

وقال بلينكن في تصريحات بوزارة الخارجية، الخميس الماضي:"أريد أن أؤكد أنه لا يوجد انقسام إقليمي يفصل بين مصالح شركائنا في المحيط الأطلسي ومصالح شركائنا بالمحيط الهادئ".

وقال بلينكن إن الولايات المتحدة ترحب "بالدول الأوروبية التي تلعب دورًا مهمًا في منطقة المحيطين الهندي والهادئ"، مضيفًا أن "فرنسا، على وجه الخصوص، شريك حيوي في هذا والعديد من القضايا الأخرى التي تمتد إلى الأجيال الماضية، ونريد أن نجد كل فرصة تعميق تعاوننا عبر الأطلسي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وحول العالم".

لماذا شاركت بريطانيا في هذه الطعنة لجارتها الأوروبية؟

بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي تبحث عن دور جديد في العالم وأصدقاء مقربين، بعدما أصبحت شبه منبوذة أوروبياً.

ورغم الغضب في بريطانيا من طريقة الانسحاب الأمريكي من أفغانستان كما ظهر من كلام نواب البرلمان البريطانيين، فإن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، في النهاية، براغماتي للغاية، إنه يريد علاقة جيدة مع الولايات المتحدة، وهو يعلم أن المنافسة الكبرى في هذه الحقبة تتعلق بخروج الصين إلى شرق آسيا.

كما يريد بوريس جونسون وجوداً أكبر في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، بسبب كل النمو الاقتصادي هناك، هذه الصفقة الفرعية طريقة سهلة للشراكة مع الديمقراطيات الأخرى للمساعدة في ضمان حرية الملاحة هناك، حسب تقرير موقع Npr.

كما أن هذه الصفقة تعني وظائف للمملكة المتحدة، ومن المحتمل أن تمثل الصفقة الأسترالية عقدًا كبيرًا جدًا ومُربحًا للغاية وله أهمية كبيرة بالنسبة للمملكة المتحدة كدولة لها تاريخ طويل في بناء غواصات نووية.

الأهم أن هذه الصفقة قد تجعل المملكة المتحدة قريبة من حليف رئيسي، وهو الولايات المتحدة، من خلال المساعدة في تحقيق هدف رئيسي، وهو مواجهة الصين.

الأوروبيون قلقون من النهج الأمريكي تجاه الصين

وتعد فرنسا أحد الحلفاء الرئيسيين لأستراليا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة بتلك المنطقة. لقد كانت تجري عمليات حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي.

وكانت العلاقة الدفاعية العميقة لفرنسا مع أستراليا محوراً في ذلك. لذا فإن إلغاء هذه الصفقة يمثل ضربة كبيرة لعلاقة فرنسا مع أستراليا والولايات المتحدة في الوقت الحالي.

فرنسا، كمعظم دول الاتحاد الأوروبي، تريد العمل مع الولايات المتحدة في إدارة العلاقة مع الصين. لكن بكين تظل شريكاً تجاريًا مهمًا لأوروبا. لذا فإن الأوروبيين لا يريدون الانجرار إلى معركة بين الولايات المتحدة والصين. 

ما يحذّر الأوروبيون منه هو منطق المواجهة الذي يسيطر على العلاقات الأمريكية الصينية. لذا فهم يريدون معالجة المخاوف التي لديهم بشأن سلوك الصين مع الحلفاء، لكنهم في بعض الأحيان قلقون من الخطاب الذي يسمعونه في واشنطن.

وتأتي صفقة الغواصات أيضًا في أعقاب الانسحاب الفوضوي من أفغانستان، مما أدى إلى انتقادات من حلفاء الناتو لواشنطن.

باريس تبحث عن عزائها في أوروبا

وقالت باريس إن قرار أستراليا "يعزز الحاجة إلى جعل قضية الاستقلال الذاتي الاستراتيجي الأوروبي واضحة".

ولكن الرهان الفرنسي على استغلال إلغاء أستراليا صفقة الغواصات الفرنسية لتحفيز التعاون الأوروبي الدفاعي ليس مضموناً.

تمثل حقائق الجغرافيا، والتكنولوجيا والاقتصاد عوائق أمام هذا التصور الفرنسي.

بالنسبة لأوروبا فإن التهديد الأكبر هو روسيا، وبالنسبة لأمريكا موسكو عدو قديم وخصم مشاغب يتلاعب بذكاء ليأخذ أكبر من حجمه، بينما الصين خصم مستقبلي يحاول أن يوهم العالم بأنه مخاطرة وقدراته أقل مما يبدو.

لكن الساسة في بلدان مثل ليتوانيا وبولندا وحتى ألمانيا، لم يتعرضوا للتهديدات والمؤامرة الصينية بل الروسية، وبالتالي فهم قلقون من التهديد الروسي، ولا يريدون التورط في النزاع الأمريكي الصيني المرتقب.

فرنسا تتجاهل المخاوف الأمنية الأوروبية الحقيقية

لكن المشكلة أن مواقف أوروبا من التهديد الروسي أيضاً ليست واحدة.

فهناك دول أوروبا الشرقية وأكبرها بولندا وأوكرانيا، تعطي هذا التهديد أولوية وتريد بناء سياسة خارجية ودفاعية في مواجهته، لدى الساسة البولنديين، والأوكرانيين وغيرهم من قادة الدول الأوروبية الأقرب لروسيا، ميل إلى التحالف مع تركيا، على الأقل على المستوى الفني في مجال الأسلحة التكتيكية للتوازن مع موسكو، كما حدث هذا عبر صفقتي الطائرات المسيرة التركية لبولندا وأوكرانيا.

بينما فرنسا تقلل من أهمية الخطر الروسي، وتحاول ادِّعاء أن تركيا هي عدوة أوروبا، وهو ادعاء لا يصدقه سوى الساسة الفرنسيين المتورطين في الإسلاموفوبيا، وبعض الليبراليين واليمينيين بشمال أوروبا، إضافة إلى اليونان، ولكن حتى دول أوروبية متوسطية مثل إسبانيا وإيطاليا تفضّل الشراكة مع تركيا، بينما دول أوروبا الشرقية والبلقان التي خضعت للحكم العثماني يوماً، ترى في موسكو الخطر الأكبر حالياً.

تبدو سياسة باريس لا تراعي سوى مصالحها وأهدافها الداخلية سواء بتنصيب الإسلام السياسي عدواً والتحالف مع المستبدين العرب المعادين لتجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا، متجاهلةً أن روسيا تحتل بالفعل، أرضاً أوكرانية.

أما ألمانيا فرغم أنها قلقة من النفوذ الروسي، فإنه يبدو أنها تفضّل مصالحها الاقتصادية مع موسكو خاصةً الطاقوية، بدلاً من نهج التأهب العسكري المكلف مادياً، والذي قد يفاقم التوتر، ولذا كانت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، هي التي عرقلت فرض عقوبات موجعة على موسكو عام 2014 بعد احتلالها للقرم.

كما أن ألمانيا الميركلية رغم تركها القياد لفرنسا الماكرونية على المستوى الخطابي على الأقل، تبدو غير متحمسة لفك الارتباط العسكري والأمني مع أمريكا كما تريد فرنسا.

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع نظيره الأوكراني فلاديمير زيلينسكي/رويترز

فمنذ الحرب العالمية الثانية، كانت فرنسا هي الشريك الأوروبي البعيد عن أمريكا عسكرياً وأمنياً تقليدياً، نعم كان هناك تنسيق واسع بحكم الوجود الفرنسي خارج القارة الأوروبية، ولكن فعلياً، كانت ألمانيا التي اعتمدت على الحماية الأمريكية النووية والتقليدية خلال الحرب الباردة أقرب بكثير خاصة على المستوى الأمني والاستخباراتي والعسكري من أمريكا مقارنة بالعلاقة بين باريس وواشنطن.

ولا تريد برلين التمادي في فك الارتباط مع واشنطن إرضاءً لفرنسا، التي لا تستطيع أن تقدم بديلاً لقدرات أمريكا العسكرية الجبارة، خاصةً أن باريس أولوياتها الأمنية مختلفة عن ألمانيا ودول وسط وشرق أوروبا.

كما أن باريس مشهورة بالتقطير في معاملاتها، ففي مشروع الطائرة الأوروبية المستقبلية الذي عماده باريس وبرلين، رفض الجانب الفرنسي المشاركة الكاملة في التكنولوجيا، مُفضّلاً الاحتفاظ لنفسه بعدة أسرار، وكانت هذه المطالب الفرنسية المبالَغ فيها سبب خروج باريس من مشروع الطائرة "يورو فايتر تايفون"، بعدما أرادت أن يكون لها اليد العليا في المشروع.

كما أنه إذا كانت أمريكا متهمة بتجاهل مصالح أوروبا الأمنية في مواجهة روسيا لصالح آسيا والمحيط الهادئ، فإن باريس فعلياً، تتجاهل هذه المصالح الأوروبية وتركز على البحر المتوسط وإفريقيا والشرق الأوسط، حيث باتت فعلياً جزءاً من محور الثورة المضادة للربيع العربي الذي يضم الإمارات والسعودية، ومصر، وهو أمر لا يمثل أهمية تُذكر لباقي أوروبا إلا بقدر ارتباط ذلك بمشكلات العلاقات اليونانية التركية القابلة للحل ضمن تفاهم تركي أوروبي تعرقله محاولة اليونان تحريض أوروبا على أنقرة بدعم من باريس.

يظهر هذا واضحاً في نهج باريس التصعيدي مع تركيا بشرق المتوسط، وذلك بإرسال حاملة طائرات للمنطقة، وصفقة الرافال مع اليونان، حيث لم تحاول باريس أن تعرض صفقة مماثلة على دول أوروبا الشرقية؛ لتقليل الاختلال الهائل في التوازن العسكري بينها وبين موسكو.

الجغرافيا وأهداف النخب الفرنسية، تجعل باريس بعيدة عن الشواغل الحقيقية للمنطقة الأكثر هشاشة عسكرياً في أوروبا لصالح مشروع فرنسي متوسطي إفريقي شرق أوسطي، جذوره تبدو استعمارية وليست لها علاقة بالعالم الجديد.

تحميل المزيد