أغنياء الحرب وأباطرة الفساد في سوريا.. كيف حقق بشار الأسد انتصاره الأجوف؟

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2020/01/20 الساعة 14:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/01/20 الساعة 14:51 بتوقيت غرينتش
بشار الأسد

لم يعد السؤال الآن أمام العالم يتعلق ببقاء بشار الأسد من عدمه بل أصبح كيف يحكم بشار الأسد سوريا؟ والإجابة عن السؤال هامة في مرحلة إعادة الإعمار التي يسعى النظام السوري جاهداً لإقناع العالم بضرورة انطلاقها، فكيف يحكم نظام بشار سوريا الآن، وكيف يجب أن يتعامل العالم معه؟

مجلة فورين أفيرز الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "الانتصار الأجوف لبشار الأسد"، ألقت فيه الضوء على الحالة الراهنة للنظام السوري، وكيف تتم إدارة الأراضي الواقعة تحت سيطرته ومن يتحكم في القرارات، وكيف.

ما أهداف نظام بشار الآن؟

عانى نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا الآن ويلات صراعٍ أهلي يُقارب سنته التاسعة هذا العام. لم يعد السؤال لأولئك المعنيين بمستقبل سوريا يدور حول ما إذا كان النظام سيبقى على قيد الحياة، بل حول الكيفية التي يسعى بها للحفاظ على تماسك نظامه وسيطرته على الدولة قبل إنهاء الحرب التي لا تزال تعصف بالبلاد. إذ ربما دخل الأسد الصراع وفي تفكيره أن نظامه بإمكانه استعادة السلطة التي كان يتمتع بها قبل عام 2011، لكن الأغلب أن أهدافه الآن باتت أكثر تواضعاً من ذلك.

ومع هذا فإن الظروف المحيطة ببلاده لا تدع فرصة لأولويات الأسد الحالية أن تكون أقل وطأة وخطراً، بل هي ربما تعظّم من الخطر الواقع على نظامه، إذ من أجل أن يُظهر للعالم أنه لا يزال المسيطر وأنه ينبغي للدول تطبيع العلاقات مع نظامه، فإن الأسد يقيناً سيسعى لاستعادة جميع الأراضي التي كانت واقعة تحت سيادة البلاد سابقاً. ولكي يحافظ على التماسك الداخلي لنظامه، فإنه لن يسمح لأهدافٍ مثل تلبية احتياجات الشعب السوري بتعطيله، بل سيظل على طموحه الدائب إلى البقاء على قيد الحياة، وهو ما يمكنه تحقيقه من خلال حفاظه على شبكة المحسوبية والمحاباة التي أصبحت شريان الحياة للنظام السوري طوال فترة النزاع.

دمشق

لكن مجرد تحقيق الأسد لأهداف الحد الأدنى تلك -البقاء واستعادة الأراضي السورية- سيحمل في طياته تكلفةَ انتصارٍ باهظ الثمن بما لا يُقاس. إذ سيجلس على قمة دولةٍ مفرّغة من داخلها، محاصراً بالمستغلّين وسُعاة التربح من كارثة الحرب، ومجبراً على الخضوع للقوى الخارجية.

هو تابع، وليس شريكاً

بدأ الأسد بالفعل في تحقيق هدفه المتمثل في استعادة السيطرة على جميع مناطق سوريا. المنطقة الرئيسة محل النزاع الآن هي شمال البلاد، حيث يسيطر مقاتلون إسلاميون على المنطقة الشمالية الغربية، ويقاومون تقدم قوات الأسد. أمَّا في الشمال الشرقي فكانت "قوات سوريا الديمقراطية" التي يهيمن عليها الأكراد قد دفعت "تنظيم الدولة الإسلامية" (داعش) إلى خارج المنطقة بحلول عام 2018، وأقامت نوعاً من الحكم الذاتي منحته القوات الأمريكية المتواجدة هناك استقراراً وثقلاً. إلا أنه في أكتوبر/تشرين الأول 2019، أمر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بسحب معظم تلك القوات، وتبعها اجتياح القوات التركية للمنطقة. على إثر ذلك، توصلت قوات سوريا الديمقراطية إلى اتفاق مع بشار يسمح لجيش النظام بدخول المنطقة الشمالية الشرقية لمواجهة الهجوم التركي. واليوم، تتولى القوات الكردية إدارة المنطقة بحضور جيش النظام السوري.

يعمل النظام السوري الآن مع روسيا على استعادة المنطقة الشمالية بأكملها تحت سيطرة دمشق. وتتوسط روسيا في صفقة مع تركيا، تسحب الأخيرة فيها قواتها من سوريا مقابل ضمانات بأن قوات سوريا الديمقراطية، التي تعتبرها تركيا منظمة إرهابية، ستُجبر على البقاء بعيدة عن الحدود. ويبحث النظام ضمن هذه المساعي التعاونَ العسكري والسياسي مع القوات الكردية، وذلك على الرغم من أن الأسد على الأرجح سيحرم الأكراد من درجة الاستقلال الذاتي التي كانوا يأملون في مكافأتهم بها لدورهم في محاربة داعش.

إذا تمكن النظام من تأمين سيطرته على المنطقة المتنازع عليها، سيدعي أنه استعاد سلطته على سوريا بالكامل، ويدعو إلى تطبيع دول العالم علاقاتها مع نظامه. تطبيعٌ سيمنح نظام الأسد الشرعية الدولية، ويمهد الطريق لرفع العقوبات المفروضة عليه، وهو ما سيسمح لأموال إعادة الإعمار بالتدفق إلى سوريا. 

ومع ذلك، فرغم أن الأسد قد يعلن انتصاره الكامل حينها، فإنه سيفعل ذلك وهو في موضع فاعلٍ ذي وزن صغير في قصة انتصاره هو الشخصية. إذ في ظل سنوات المعاناة السورية، أخذت روسيا شيئاً فشيئاً تصبح الطرف الخارجي الأكثر نفوذاً في الحرب، علاوةً على إيران التي ضمنت لنفسها موطأ قدمٍ ونفوذاً دائماً في بلاد الشام. ومن ثمَّ سيجد نظام الأسد نفسه تابعاً أكثر منه شريكاً، وهكذا فإن بقاء نظامه يعتمد أساساً على دعم هذين الداعمين الخارجيين.

وقد أخذ النظام السوري يمنح بالفعل امتيازات اقتصادية وأمنية لإيران وروسيا، ليس أقلها العقود الحكومية في قطاع النفط والسيطرة على قواعد بحرية، مقابل دعمهما للنظام في النزاع. وقد عمدت سوريا، على وجه الخصوص، إلى تحقيق مصالحها وتوسيع نفوذها في سوريا عن طريق الضغط على النظام لمنح عقود اقتصادية للشركات الروسية، وتولية الموالين لروسيا والمخلصين لها في مناصب عليا في الجيش السوري. وعلى ما يبدو فإن الولايات المتحدة لا تعتبر السيطرة الروسية على سوريا تهديداً مباشراً للمصالح الأمريكية، ومن ثم فلا ضوابط من أطراف خارجية تكبح قدرة سوريا على فرض نفسها ونفوذها على نظام الأسد. وبالنظر إلى أن الأسد استعاد البلاد بذراع روسيا الثقيلة، فإنه سيحكم سوريا ليس بوصفها دولة ذات سيادة، وإنما دولة يعتمد صمود نظامها وقابليتها للمضي قدماً على روسيا بالأساس.

ربما لم تكن تلك النتيجة النهائية هي المآل الذي كان في نية الأسد الأصلية، لكن سيتعين عليه التعايش معها، لأن سيطرته على البلاد تضاءلت حتى باتت هيكلاً بلا مضمون. أما المناطق التي استعادها النظام مؤخراً في شمال شرقي البلاد، مثل القامشلي، فإنها لا تزال تحت السيطرة الفعلية للميليشيات الكردية، وهي التي تدير نقاط التفتيش فيها، لكنها تحت ضغطٍ من الدوريات الروسية، ترفع العلم السوري لإعطاء الانطباع الخارجي بأن الجيش السوري هو المسؤول. وقد بلغ الأمر ببعض جنود الجيش النظامي السوري الذين جُندوا حديثاً وعينوا مبدئياً للخدمة في المنطقة أن شرعوا في العمل بالزراعة لتحصيل ما يسد رمقهم.

نظام كبناءٍ قائم على الرمل قد ينهار في أي لحظة

الجهات الفاعلة الخارجية ليست هي الأطراف الوحيدة المعنية التي يدين لها الأسد ببقاء نظامه. فخلال سنوات النزاع، كان على النظام الاعتماد على شبكة كبيرة من الوكلاء والجهات الفاعلة غير الحكومية، بعضها عسكري وبعضها مدني، للتحايل على العقوبات الدولية المفروضة على معاملات النظام التجارية، ودعمه في المعارك، والقيام بوظائف الدولة، مثل الخدمات العامة التي افتقر النظام إلى الإمكانية أو القدرة على الاضطلاع بها. هذه الجهات الفاعلة أخذت تستفيد من النزاع الذي طال أمده، وأصبحت أكثر طموحاً ونفوذاً، بحيث انقلب الوضع الآن وبات النظام هو المحتاج إليها لبقائه لا هي. فقد أصبح هؤلاء المنتفعون هم السلطات الفعلية التي تقوم بدور مؤسسات الدولة، لكن بالطبع مقابل ابتزازٍ وأثمان باهظة آخذة في الازدياد.

وعلى هذا النحو، أخذت عدوى المنتفعين تستشري في أجهزة الأسد الأمنية كافّتها وعلى جميع المستويات. وأصبحت بعض الميليشيات التي دعمت الأجهزة الأمنية للدولة خلال النزاع مستقلة استقلالاً متزايداً، حتى باتت تسعى في المقام الأول إلى تحقيق مصالحها وتعظيم نفوذها. وفي بعض الحالات، تحولت هذه الميليشيات إلى عصابات مسلحة تروّع المدنيين حتى في المناطق الموالية للنظام. وعلى إثر ذلك، لم يعد النظام بإمكانه تلبية احتياجات سكان البلاد، حتى في المناطق الموالية، ولا كبح جماح بعض الميليشيات التي يُفترض أنها تابعة له.

وفي مناطق معينة، كما هو الحال في مسقط رأس عائلة الأسد، في مدينة القرداحة باللاذقية، عانى النظام صعوبات كبيرة للدخول إلى المناطق التي تسيطر عليها العصابات المسلحة، ولم تسلم تلك العصابات أسلحتها الثقيلة إلا بشرط أن يغض النظام الطرف عن أنشطتهم الاقتصادية غير المشروعة. وقد بات الجيش السوري والمؤسسات الأمنية ذاتها تدير أعمالها بنظام الصفقات، إذ تسعى الفروع المحلية للأجهزة الأمنية لتحقيق مصالحها الخاصة، لا مصالح الدولة.

إعادة الإعمار الهدف القادم لأباطرة النظام

ورغم أن النظام السوري لا يمكنه على أي نحوٍ إشباع جشع هؤلاء المنتفعين من خزائنه الحالية، فإنه في الوقت نفسه ليس بقادر على تحمل ما قد يسفر عنه تجويعهم، إذ قوة نظامه ترتكز في جزءٍ كبير منها على دعائمهم. ولهذا السبب، فإن الأسد يستميت للحصول على أموال إعادة الإعمار ليمكنه بعد ذلك الإنفاق منها على شبكات المصالح والمحسوبية التي يقوم عليها نظامه. ولمنع حدوث ذلك، يتعين على أي دعم خارجي يجري تقديمه لمشاريع إعادة الإعمار في سوريا أن يكون مشروطاً بضمان توزيع الأموال على الشعب السوري بعامته.

كيف يتعامل مع الشعب؟

ربما لو كان نظاماً مختلفاً لحاول تدعيم سلطته في مرحلة ما بعد الصراع من خلال التودد لمواطنيه بتلبية احتياجاتهم، لكن نظام الأسد فعل نقيض ذلك، إذ أخذ يعاقب من يعتبرهم غير موالين له بما فيه الكفاية بحرمانهم من الخدمات الأساسية، والأمن، والحقوق العامة. وفي عام 2018، فرض النظام السوري "القانون رقم 10" والذي ينص على تجريد الأشخاص من حقوق الملكية ما لم يُثبتوا ملكيتهم للأصول محل المصادرة أمام السلطات المحلية، وبحضورهم شخصياً. ويطبّق القانون أساساً في البلدات التي وقعت في وقت من الأوقات تحت سيطرة المقاتلين المعارضين للنظام، إذ يتعرض الأشخاص الذين يبلغون عن ممتلكاتهم لتحقيقات تمهد الطريق لإلقاء القبض عليهم. وتستفيد شبكات المصالح والمحسوبية من هذه التدابير، على سبيل المثال، عن طريق تلقي الرشاوى للإفراج عن المعتقلين.

والخلاصة أن الأسد يسعى من خلال قمع المنشقين وترسيخ قبضته على جميع أراضي سوريا، إلى توصيل الانطباع بأن سوريا عادت إلى الوضع الذي كان قائماً قبل 2011. لكن الحقيقة أن نظامه الحالي قائم على أوهام دولة، وما لديها من بقايا قوة قليلة تستند بالأساس إلى قوى أخرى تتحكم في زمام الأمور. ومن ثم يجدر بالدول الغربية ألا تطبّع العلاقات مع سوريا على أساس أن الأسد هو الخيار الوحيد المتاح. بل يجب عليهم، عوضاً عن ذلك، السعي لفهم سوريا من القاعدة إلى القمة، لا العكس، حتى يتمكنوا من فرض نفوذ ما على الفصائل المختلفة والتشققات التي يمتلأ بها نظامه لضمان عدم استخدام النظام أي برامج مخصصة لدعم سوريا، لإطعام شبكات منتفعيه المحليين ورعاته الخارجيين. فالمرحلة الأخيرة من معركة الأسد للبقاء على رأس النظام في سوريا آلت به إلى الجلوس على عرش هشٍّ يقوم بالكاد، على 1000 قطعة يوازن بعضها بعضاً على نحوٍ قابل للانهيار في أي وقت.

تحميل المزيد