يُجمع مُراقبون وقيادات من داخل السلطة الفلسطينية وحركة "فتح" على أن السلطة الفلسطينية الآن تمر بأضعف حالاتها في خضم الأحداث الميدانية غير المسبوقة في حجمها وتزامنها، والتي عصفت بكافة أماكن الوجود الفلسطيني بالداخل.
يأتي هذا في أعقاب الحرب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة بعدما استهدفت حركة "حماس" بصواريخها مدينة القدس المحتلة بعد تهديدات مستوطنين باقتحام المسجد الأقصى.
ومع إعلان وقف إطلاق النار في غزة، وعدم وجود دور ملموس للسلطة في التظاهرات الغاضبة التي اجتاحت الضفة الغربية ومدن من الداخل الإسرائيلي، بدأت تدور أسئلة ملحة تتعلق بما ينتظر السلطة بعد وقف الحرب على غزة، وتبعات هذه الحرب والأحداث المصاحبة لها والمواجهات مع الاحتلال الاسرائيلي على مستقبلها خاصة في الضفة الغربية؟
وهل يُعد ما يجري مخاضاً يهيئ لتغيير في توازنات القوى الفلسطينية أم أن ما يجري من أحداث سيصب بالمُحصلة اتجاه المحافظة على هذه التوازنات؟ وماذا ستفعل الجهات الإقليمية والغربية "القلقة" من أجل الحفاظ على بقاء السلطة الفلسطينية وما يُصطلح عليها دولياً "حماية الوضع الراهن"؟
كما ظهر سؤال آخر يبدو أنه ملح أكثر بالنسبة للمستويات الأمنية الإسرائيلية؛ ألا وهو: هل ستضطر حركة "فتح" إلى الانخراط في المواجهات مع إسرائيل على غرار الانتفاضة الثانية، إذا ما تطورت الأحداث، حفاظاً على قوتها ووجودها واحتكارها للسلطة ومنعاً لسحب البساط من تحت أقدامها لصالح حركة "حماس" وقوى شبابية جديدة باتت تفرض نفسها في الساحة؟
"فتح" مُغيّبة عن أحداث الميدان الأخيرة
أوضح مصدر سياسي فلسطيني في أراضي 48 لـ"عربي بوست" أن المعلومات الواردة إليهم من مصادر أمنية إسرائيلية تشير إلى أن كل الأحداث الميدانية المستجدة في الضفة الغربية في الأيام الأخيرة لا تزال حركة "فتح" من الناحية العملية بعيدة عنها ولم يُسجل أي علاقة لها بها.
لكنّ المسؤول أعرب في الوقت ذاته عن خشيته من أن استمرار المواجهات وتطورها قد يدفع إلى تصاعد الميدان على نحو خطير في الضفة الغربية، لاسيما أن "فتح" لديها كميات كبيرة من الأسلحة، ولديها آلاف النشطاء الذين يتمتعون بإمكانات وقدرات لافتة.
وتابع المسؤول: "تقديرنا أن فتح والسلطة حتى اللحظة لديها قرار بعدم الانخراط عسكرياً في أي مواجهة مع إسرائيل".
هذه الأحداث الميدانية والمواجهات مع قوات الاحتلال الإسرائيلي تبدو للوهلة الأولى وكأنها فرصة لإنقاذ السلطة من انفجار حتمي في وجهها من قبل الشارع الفلسطيني على ضوء الفجوة الكبيرة بينه وبين القيادة التي تحظى بالامتيازات والرفاهية بفعل الفساد والمحسوبية والاحتكار، بالإضافة لانسداد الأفق السياسي بعد قرار تأجيل الانتخابات.
غير أن هذا لا يضمن أن خطر الانفجار قد زال تماماً، بل إنه قد يعود بقوة من جديد بعد وقف إطلاق النار في غزة، بحسب مراقبين.
انتشار أمني فلسطيني بلباس مدني تحسباً لفقدان السيطرة!
ورصد موقع "عربي بوست" في الساعات الأخيرة انشاراً أمنياً فلسطينياً غير مسبوق بمنطقة البالوع في مدينة رام الله على مساحة مربع أمني كامل في محيط منزل رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، امتداداً إلى مسافة قريبة من منطقة المواجهات اليومية مع قوات الاحتلال شمال مدينة البيرة، وأيضاً في محيط مقر "المقاطعة" (الرئاسة).
اللافت أن الانتشار الأمني هو لعناصر أمنية بلباس مدني ومركبات مدنية (بعضها من شركات إيجار) في الشوارع وبين الأشجار، في سبيل القيام بعملية الرصد والمتابعة كخطوة استباقية لشيء ما يقلق السلطة.
وأكد ضابط في جهاز الاستخبارات الفلسطينية لـ"عربي بوست" أن هذا النشاط الأمني ضرورة في ظل الأحداث المستجدة، بعد مخاوف من اندلاع تظاهرات ضد السلطة بعد وقف حرب غزة وهدوء المواجهات مع الاحتلال في الضفة.
وأفاد الضابط بأن هناك مخاوف ليس فقط من تنامي قوة "حماس" ونشاطها في الضفة الغربية، وإنما أيضاً جهات أخرى لا سيما قوى محسوبة على القيادي المفصول من "فتح" محمد دحلان إضافة إلى ما يُعرف بـ"الحراك المجتمعي".
يأتي هذا خاصة في أعقاب خروج مسلحين محسوبين على دحلان في الأيام الأخيرة في رام الله ومحافظات أخرى بالضفة بطريقة استعراضية، مُعرّفين أنفسهم بـ"كتائب الأقصى العائدة بعد غياب"!
وأضاف المصدر لـ"عربي بوست" أن الانتشار الأمني لقوات "حرس الرئيس" والاستخبارات جاء بعد واقعة إطلاق النار تجاه الجنود الإسرائيليين شمال مدينة البيرة قبل يومين، ما أدى إلى إصابة جنديين بجراح طفيفة في قدميهما.
وتعتقد أوساط أمنية فلسطينية أن هدف مطلق النار هو جر مناطق السلطة الفلسطينية لعمليات إطلاق النار و"خلخلة" سيطرة السلطة على مناطقها.
كما تتحسب السلطة لسيناريو متمثل بمظاهرات ضدها في المرحلة المقبلة، على ضوء معلومات مزعومة لديها أن مجموعة من "الحراكيين" يحاولون اقتحام مقر المقاطعة في رام الله.
قلق عباس
وعلم موقع "عربي بوست" من مصادر أمنية أن رئيس السلطة اجتمع مؤخراً بقادة الأجهزة الأمنية بعد عملية إطلاق النار المذكورة وخروج ملثم بفيديو يدعي فيه أنه أحد عناصر الأجهزة الأمنية الفلسطينية، مهدداً بعمليات ضد أهداف إسرائيلية.
وطلب عباس من قادة الأمن عدم السماح بفقدان السيطرة على الوضع ومنع أي "عسكرة" للمواجهة مع اسرائيل.
وأفاد المصدر الأمني أيضاً لـ"عربي بوست" بأن هناك مراقبة أمنية حثيثة لما يكتب في وسائل التواصل الاجتماعي من قبل النشطاء الفلسطينيين وفي الشارع.
وأوضح أن ثمة قراراً داخلياً في أروقة السلطة أنه بعد توقف حرب غزة وتراجع حدة المواجهات، فإن السلطة تنوي ملاحقة منتقديها وكل من كتب شيئاً ضدها بدعوى "التحريض ضدها"، وذلك في محاولة للمحافظة على "هيبتها".
محاولات "فتح" والسلطة للاحتواء: هل تنجح؟
وفي الوقت ذاته، سعت السلطة وحركة "فتح" إلى تعزيز مشاركة مسؤوليها وقيادات "فتح" وحتى طارق عباس، نجل رئيس السلطة، في المسيرة الضخمة برام الله التي نظمت يوم الثلاثاء 18 مايو/أيار الذي شهد إضراباً شاملاً في كل أماكن الوجود الفلسطيني، بناء على تعليمات ونصائح أمنية لاحتواء الانتقادات الشعبية ضدها.
كما شارك عضو مركزية فتح جبريل الرجوب وزميلاه عباس زكي ووليد عساف في تشييع شهداء "بلعين وام الشرايط" بمحافظة رام الله، الخميس 20 مايو/أيار. كل هذا فقط للقول "نحن قريبون من الشارع وموجودون في الميدان".
غضب فلسطيني من الدول العربية
الواقع أن الدول العربية والغربية هي الأخرى تخشى على وضع السلطة. ولذلك، تحاول هذه الدول تعزيز مكانة السلطة في المرحلة القادمة بعد وقف العدوان على غزة، بل وإظهار السلطة وكأنها في صُلب الاتصالات الدولية التي تمخضت عن وقف إطلاق النار في غزة.
عكس ذلك، إعلان القطب الفتحاوي جبريل الرجوب مساء الأربعاء 19 مايو/أيار على قناة "الشرق" الإماراتية عن هدنة مرتقبة في قطاع غزة.
الرجوب نفسه اشتكى قبل أيام من عدم تلقي مقر "المقاطعة" في رام الله أي اتصالات عربية ودولية، في إشارة ضمنية منه إلى غضب السلطة من تركز هذه الاتصالات مع حركة "حماس" وإهمال السلطة.
لكنه سُرعان ما عاد كي يشيد بالجهود العربية في عملية تحقيق التهدئة، فيما يبدو إدراكاً من السلطة بأن هذه الأطراف الدولية ما زالت مهتمة بالمحافظة على توازنات القوى وعدم المساس بمكانة السلطة.
تخوف أمريكي ودولي على مستقبل السلطة
كما أن رسالة الرئيس الأمريكي جو بايدن الأخيرة المكتوبة إلى محمود عباس بدت وكأنها تخفي خلفها خشيةً أمريكية من ضعف السلطة.
يعتقد سفير فلسطين الأسبق نبيل عمرو في حديثه لـ"عربي بوست" أنه لا بد من ألا تتوقف أمريكا وأوروبا عند إطفاء حريق غزة، بل يجب أن يتبعه امتداد سياسي عبر إطلاق جهد لتسوية سياسية.
ولعل إطلاق جهد سياسي دولي تحتاجه السلطة في هذا التوقيت لإعادة الاعتبار لوجودها بعد أن قامت إسرائيل بإضعافها إلى أقصى حد، ولكن دون قتلها.
هل تتغير التوازنات داخل السلطة؟
والسؤال: هل نشهد مقاربة سياسية جديدة من المجتمع الدولي لإنقاذ السلطة وحفظ توازنات القوى الفلسطينية، خاصة مع بروز جيل فلسطيني جديد بلا مرجعية قادر على التمرد على أي شيء وغاضب من السلطة، وقد أبرزت معركة "القدس" هذا الانطباع؟
الباحث الأردني منذر حوارات قال لـ"عربي بوست" إن هذا الوضع الذي تفرضه الفصائل الفلسطينية والسلطة لا بد أن يتغير ولن يدوم مهما كانت رغبة الأطراف الدولية. ذلك أن جيلاً جديداً قد نشأ ولا يمكن احتواؤه، موضحاً أن ما بعد "معركة القدس" ليس كما قبلها.
بيدَ أن السلطة الفلسطينية تعتزم القيام بعدة خطوات في الفترة القادمة لاحتواء الأضرار التي طالت مكانتها على ضوء حرب غزة والمواجهات مع الاحتلال، إذ إنها تريد استثمار الأحداث لاستعادة زمام المبادرة السياسية في المجتمع الدولي بما يعزز دورها، بموازاة إطلاق حوار وطني مع حماس وبقية الفصائل لمناقشة عدة قضايا، بينها تشكيل "حكومة وحدة".
واعتبر قيادي مقرب من رئيس السلطة محمود عباس في حديث لـ"عربي بوست" أن قضية الشيخ جراح والقدس وأي ترتيبات لاحقة ستتم عبر "الشرعية الفلسطينية" أي السلطة، مضيفاً أن "الموقف الدولي واضح في كون السلطة هي المرجعية، وأن إخواننا المصريين يضعوننا بصورة كل شيء".