تحليلات

صراع العاصمتين يقرر مستقبل ليبيا

تم النشر: 2020/10/19 الساعة 07:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/10/19 الساعة 07:23 بتوقيت غرينتش

“للدولةِ عاصمتان”

جملةٌ وردت في مقدمةِ أولِ دستورٍ لدولةِ ليبيا الحديثة

لدى استقلالِها عامَ ألفٍ وتِسعِ مئةٍ وواحدٍ وخمسين

وبعدَ كلِّ هذه العقودِ أصبحَ خلافُ طرابلس وبنغازي تاريخاً ملوثاً بالدم

يُغذِّيه التنافسُ على النفطِ والنفوذ

وتنفخُ في أتونه قوىً خارجية

لِتُشعل ناراً وَقُودُها الناسُ والمستقبل

والآنَ تأتي سرت لتُنبِئَ بـ”نهايةِ” صراعِ العاصمتين

 

 

عَرَفَ الإيطاليون أنَّ ليبيا ليست دولةً واحدة

فشيَّدوا قوساً رخامياً يفصلُ إقليمَ برقة وعاصمَتها بنغازي عن طرابلس في ألفٍ وتِسعِ مئةٍ وسبعةٍ وثلاثين

بعدَ سنواتٍ من هزيمةِ إيطاليا في الحربِ العالميةِ الثانيةِ، وتحديداً في ألفٍ وتسعِ مئةٍ وتسعةٍ وأربعين ظهر مشروعٌ بريطانيٌّ- إيطاليُّ عُرِفَ بمشروعِ بيفن سيفورزا، يدعو لوصايةٍ إيطاليةٍ على طرابلس

ووصايةٍ فرنسيةٍ على فزّان

ووصايةٍ بريطانيةٍ على برقة

المشروعُ سقط في الأممِ المتحدة..

وليبيا استقلتْ بعدَ سنتين

وفي ليبيا قُبيلَ الاستقلالِ كانتْ طرابلس وبنغازي في سلسلةِ منَ الصراعاتِ

أولُها على نظامِ الحكم

فقد أرادتْهُ طرابلس جمهورياً رئاسياً

وأرادتْهُ بنغازي ملكياً دستورياً

أربعُ سنواتٍ منَ التفاوضِ لم تصلْ لحل..

ولمَّا أعلنت برقة استقلالَها عامَ ألفٍ وتسعِ مئةٍ وتسعةٍ وأربعين ومبايعةَ السنوسيِّ ملكاً اتَّخذتْ طرابلس قرارَها بمبايعةِ الملكِ حتى لا تنقسمَ البلادُ

وثاني الخلافاتِ.. أين تكونُ العاصمةُ؟

عندما جاء دستورُ ألفٍ وتسعِ مئةٍ وواحدٍ وخمسين ليقسمَ ليبيا إلى ثلاثةِ أقاليم

أعلن طرابلس وبنغازي عاصمتَيْن للدولةِ الفيدرالية

على أنْ تتبادلا إدارةَ البلادِ خلالَ أشهرِ السنة

لكنَّ خلافاً ثالثاً ما زال قائماً..

النفطُ والمؤسساتُ السيادية

الخلافاتُ بين بنغازي وطرابلس سبقتْ إعلانَ أولِ كشفٍ نفطيٍّ في ألفٍ وتسعِ مئةٍ وثمانيةٍ وخمسين

وبعد تصديرِ أولِ شحنةٍ بدايةَ الستينيات

عاد التنافسُ حولَ مقرِّ المؤسسةِ الوطنيةِ للنفط

الذي أُنشِئَ في بنغازي

وتبيَّن لاحقاً أنَّ موقفَها أقوى من طرابلس.. ففي برقةَ يتركَّز ثُلثا المخزونِ الليبي من النفط

إذن تنتصرُ بنغازي..

 لكنَّ القذافي كان له رأيٌ آخرُ

في ألفٍ وتسعِ مئةٍ وثلاثةٍ وسبعين استخدم معمّر الديناميت لتفجيرِ قوسِ إيطاليا الرخاميِّ الذي فَصَلَ برقةَ عن طرابلس

واختار طرابلس عاصمةً وحيدةً للدولةِ الليبيةِ انتقاماً من ثورةٍ طلابيةٍ عليه في بنغازي سنةَ ألفٍ وتسعِ مئةٍ وستةٍ وسبعين

ومن طرابلس أُعلن تجريدَ بنغازي مِن كلِّ المؤسساتِ السيادية

وخلالَ سنواتِ حكمِ القذافي الطويلةِ تغيَّرت الطبيعةُ السياسيةُ كثيراً

لصالحِ النخبةِ الجديدةِ من قادةِ الجيشِ والأجهزةِ الأمنية

ومن بنغازي سيحُلُّ الغضبُ على العقيد

فكانت أغلبُ محاولاتِ الانقلابِ تأتيه منَ الشرق

حتى أُطيحَ به في ثورةِ ألفينِ وأحدَ عشرَ التي بدأتْ منَ الشرقِ أيضاً

وتعودُ ليبيا لنقطةِ بدايةِ الخلاف..

مَنْ يحكمُ مَنْ؟ وأين تكونُ العاصمة؟

القوى القَبَليةُ التقليديةُ في الشرقِ تشكو مِن فقدانِ نفوذِها في ليبيا الجديدة

لصالحِ القوى الثوريةِ الجديدةِ والنخبةِ السياسيةِ في الغرب

وعندما انعقدتْ انتخاباتُ مجلسِ النوابِ لعامِ ألفينِ وأربعةَ عشرَ لم تَقبلْ قوى طرابلس بنتائجِها

واشتعل الخلافُ مجدداً

لتنقسمَ البلادُ بين حكومتين:

الأولى في الشرقِ تعملُ من طُبرق

والثانيةُ في العاصمةِ طرابلس

تندلعُ الحربُ الأهليةُ

وتستمرُ ستَّ سنواتٍ دونَ إعلانِ المنتصرِ

وكي لا تنقسمَ ليبيا إلى أقاليمَ كما كانت عقبَ الحربِ العالميةِ الثانيةِ.. أو تكونَ دولةً هشةً متعددةَ مراكزِ القوى السياسيةِ والجغرافية

وحتى لا ينفرِطَ عِقدُ الوحدةِ إلى دولتينِ أو ثلاثِ دول

جاء ألفانِ وعشرونُ بالاقتراحِ الوسط..

وفي الوسطِ ما بين طرابلس وبنغازي تقعُ سرت

فلماذا قد تكونُ سرت هي الحل؟

ليستْ صدفةً أنْ يقترحَ رئيسُ مجلسِ نوابِ طُبرق عقيلة صالح نقلَ العاصمةِ الليبيةِ مؤقتاً من طرابلس الغربِ إلى سرت في الوسط

سرت التي شهدتْ مقتلَ القذافي في ألفينِ وأحدَ عشرَ

هي العاصمةُ المثاليةُ في رأيِ الأمريكيين

والعاصمةُ المؤقتةُ في إطارِ حلِّ منطقةٍ منزوعةِ السلاح

تحتضنُ الحكومةَ والمؤسساتِ السياديةَ بعد توحيدِها

سرت تقعُ في مثلثِ النفط

وهي بعيدةٌ جغرافياً عن مركزَيِ الصراعِ الأساسيين..

ستكون فاصلاً بين ميليشياتِ الشرقِ والغربِ المتناحرة

ومن الممكنِ أن تكونَ تحتِ إشرافٍ دوليٍّ ووطنيٍّ مشتركٍ على الاقتصادِ والعمليةِ السياسية

نقلُ السلطةِ إلى سرت قد يكونُ الإجابةَ النهائيةَ لمعضلةِ ليبيا

أو على الأقلِ تأجيلاً لحسمِ الصراعِ بين العاصمتينِ القادمتين

إلى مرحلةِ كتابةِ دستورِ ليبيا الجديدة

تحميل المزيد