«حكواتي مودرن» في بلاد الألمان.. السوري الذي نقل إرث بلاده لأوروبا كي لا تموت القصص والحكايات

مرتدياً الزيّ الدمشقي التقليدي دخل إلى القاعة وبدأ بالحديث، ليس بالصورة التي يتوقعها كل من يعرف الحكواتي أو شاهده في المسلسلات التاريخية وهو يجلس على كرسيه

عربي بوست
تم النشر: 2018/11/17 الساعة 08:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/03/31 الساعة 10:54 بتوقيت غرينتش
حكواتي في ألمانيا

مرتدياً الزيّ الدمشقي التقليدي دخل إلى القاعة وبدأ بالحديث، ليس بالصورة التي يتوقعها كل من يعرف الحكواتي أو شاهده في المسلسلات التاريخية وهو يجلس على كرسيه ويبدأ بـ"قال الراوي يا سادة يا كرام"، بل وضع الطربوش على رأسه وحمل عصاه ليعرف القاعة التي امتلأت كراسيها عن آخرها بالمتفرجين، بالحكواتي، فالمكان الذي يعرض فيه الممثل السوري بسام داوود حكتويه ليس في أحد مقاهي دمشق أو مدن الشرق الأوسط التي يعرف سكانها ماهية ما يقدمه تماماً، بل شمال غرب أوروبا في العاصمة الألمانية برلين.

الحكواتي أو الراوي أو القصّاص أو القاصّ، عادة شعبية تقليدية، وهو شخص امتهن سرد القصص، في المنازل والمحال والمقاهي والطرقات، كان يحتشد حوله الناس قديماً، لا يكتفي بسرد أحداث القصة بتفاعلٍ دائم مع جمهوره، بل يدفعه الحماس لأن يجسّد دور الشخصية التي يحكي عنها بالحركة والصوت.

حكواتي في بلاد الألمان

في الصالة الكبيرة بمؤسسة باول غيرهاردت، التي سُميت على اسم أحد أهم شعراء الترانيم الكنسية في ألمانيا، وقف داوود يوم السبت 10 نوفمبر/تشرين الثاني، يروي لمتابعيه الألمان، كيف كان الحكواتي يوماً ما جزءاً لا يتجزأ من أي حيّ دمشقي، شأنه شأن المختار أو الزعيم أو أركانه من حمام ومقهى، ويقوم مقام التلفزيون في القرون الماضية، مقدماً التسلية والأخبار للناس.

يترقب رواد المقاهي قدومه ليلة الخميس التي تسبق العطلة، ليجلس في مكان مرتفع، ويروي لهم السير الشعبية، فينفعل ويندمج في الرواية ويمثل بعض أحداثها مستعيناً بعصاه الرفيعة، قبل أن يقرأ زميله خالد المصري على نحو موازٍ ترجمة ألمانية لما قاله محاولاً التماهي مع الموقف وإضفاء النغمة القصصية في السرد، ليوصل الفكرة للحضور.

خلال عرض الحكواتي / تصوير: محمد بيروتي
خلال عرض الحكواتي / تصوير: محمد بيروتي

حكواتي "مودرن"

إلا أن السوريين أنفسهم ممن سبق لهم مشاهدة الحكواتي التقليدي وجدوا نسخة محدثة منه "مودرن" لا يعرفونها، فلم تعد القصص التي يرويها داوود و3 شبان سوريين معه من السير الشعبية وعن البطولات الأسطورية لعنترة بن شداد أو الزير سالم وتغريبة بني هلال مثلاً، بل هي قصص أو أحداث مفصلية وقعت في بلادهم وواجهها مواطنوهم في الأعوام الماضية وحتى يومنا هذا، تضاهي في جسامتها وتأثيرها على الشعب، تلك القصص التي خلدها التاريخ في الروايات الشعبية، أو سرد ليومياتهم في سوريا أو البلدان التي لجأوا إليها، هرباً من الحرب أو الاضطهاد.

ويتبين ذلك بوضوح في رواية الصحافي خالد العبود في الأمسية، حكايات الليالي السورية في مختلف الفصول، والأجواء السائدة فيها، من اجتماع العائلة ومتابعة التلفاز، والتخاصم حول نوعية البرنامج الذي ينبغي مشاهدته وألعاب الورق وحجز أفراد العائلة أقرب مكان من الموقد إلى قضاء معظم الأمسيات الصيفية في الخارج، واستقبال الضيوف والخوض في أحاديث الحصاد وتخزين المؤن، والقلق المصاحب لبدء الدوام المدرسي في تأمين كل ما يلزم.

إنها تفاصيل حياتية تبدو وكأنها من زمن غابر، لكنها كانت موجودة قبل أعوام قليلة فحسب، إلا أن مثل هذه الاجتماعات العائلية اختفت، بحسب العبود، حالياً إلا عبر مجموعات "واتساب" بعد أن تفرّق شمل الكثير من العوائل في دول مختلفة شرقاً وغرباً.

السوريون والسهر ليلاً

وبعد أن عزف الفنان أثيل العبود مقطوعات على آلة التشيلو، تحدث زميله أحمد قلعجي، في الجزء المخصص لحكايته في الأمسية، عن نزعة السوريين عامة إلى السهر ليلاً، وعن عاداته في السهر يومياً مع أصدقائه في المقهى في دمشق، من تدخين النارجيلة ولعب الورق فيما صوت كوكب الشرق أم كلثوم يجوب المكان، وكيف تغير الأمر عند انتقاله للعمل في دبي ثم قدومه إلى ألمانيا، التي لم يجد فيها مقاهي تشبه تلك التي كان يرتادها هناك، أو لاعبي ورق شدة محترفين.

وأثار قلعجي ضحكات الحضور من الألمان وهو يتحدث عن تبدل الحال حالياً، إذ يقضي سهرته هنا في ألمانيا في مطبخ المنزل المشترك مع شركائه الألمان الستة، ويأكلون سلطة البطاطا، الأكلة الألمانية الأشهر، و"تشيز كيك". وتقلصت خيارات الشراب على الجعة أو أنواع مختلفة من المشروبات العضوية، كالشاي أو الليمون، وبات يفتقد الحماس في لعب الورق، كما كان الحال في دمشق، الذي يشبهه بالتنافس بين اليمين واليسار السياسي في ألمانيا، في ظل لعب الألمان ألعاباً مختلفة.

لكنه استدرك بأنهم تعوّدوا سماع أم كلثوم فيما تعلم هو لعبة ورق ألمانية، وهكذا تحقق الاندماج من الطرفين.

لهذا أصبحت حكواتياً

ما إن يتناهى صوت بسام داوود لأسماع المرء في القاعة، حتى يتذكر سامعه مشاركته منذ مطلع الألفية الثانية، في العديد من المسلسلات التاريخية كذكريات الزمن القادم وربيع قرطبة وصقر قريش والكثير من المسلسلات التركية المدبلجة للعربية كوادي الذئاب أو العشق الممنوع، إلا أنه يطل هنا بدور جديد هو الحكواتي.

وشرح الممثل السوري للحضور من الألمان والسوريين ما الذي دفعه إلى تقمّص شخصية الحكواتي، وكيف أنه حاول من خلاله توثيق ورواية قصص إنسانية سمعها خلال جولات له كمدير للمسرح الجامعي في دمشق ومما شاهده هو نفسه بعد اندلاع الثورة، بعيداً عن رواية النظام السوري وإعلامه الذي صور كل ما يجرى في البلاد من تظاهرات مناهضة له، شارك هو نفسه في بعضها، على أنه مكافحة للتطرف والإرهاب فحسب، على حد وصفه.

الفرقة الموسيقية خلال العرض / تصوير: محمد بيروتي
الفرقة الموسيقية خلال العرض / تصوير: محمد بيروتي

وقال داوود في حواره مع "عربي بوست" إن فكرة الحكواتي تكونت لديه عام 2012 وهو موجود في سوريا، رغبة منه في توثيق القصص الإنسانية، العابرة للطوائف، التي لا تهم وسائل الإعلام المعارضة أو التابعة للنظام أو الدولي والتي تصبح طيّ النسيان، والمتناقضة مع ما كان يبث حينها من قصص حرب ودمار.

وعند تأسيس إذاعة سوريالي، بدأ بالمشاركة بحلقات أسبوعية ببرنامج "حكواتي سوريالي" بشخصية "أبوفاكر الحكواتي"، مستخدماً صوتاً مستعاراً كي لا يتم كشف هويته وملاحقته أمنياً، قبل أن يكشف عن هوية المتحدث في الحلقات بعد وصوله لألمانيا نهاية عام 2013.

التحول إلى العروض

أما كيف تحولت الفكرة إلى عروض، فأوضح الممثل السوري أنه فكر في البداية في الطريقة الملائمة لتقديم الشخصية، وبدأ الأمر بتعاونه مع مدونة "قصتنا" البريطانية في عام 2014 في ورشة عمل، ثم دعوته من قبلهم للمشاركة في مهرجان في اسكتلندا بشخصية الحكواتي، فذهب إلى هناك وقدم الشخصية التقليدية راوياً قصص تراثية وأخرى واقعية، ترافقها ترجمة إنكليزية، فشعر بأن هذه هو الشكل الذي بإمكانه استخدامه تجسيد الشخصية.

وأشار إلى أنه بعد مشاركته مع ممثلة اسكتلندية مقيمة في ألمانيا، في مشروع "حكواتي"، قرر عدم المضي فيه معها، وتأسيس مشروع "بيت الحكايا السورية" في عام 2016، مع مجموعة من الشباب السوريين منهم خالد العبود وتغريد الدواس وآخرون، وتأسيس مشروع تعليمي موازٍ مع زميلاته ديمة قلعجي وأسيل حمدان وروان الكردي باسم "فيفاتشي"، يقدم هو من خلالها ورشات كتابة القصة للشباب السوري، يعلمهم كيفية تقديم قصصهم الخاصة، بطريقتهم الخاصة.

وهكذا نسق مع الذين يشاركون في ورشات العمل في مشروع "فيفاتشي" الراغبين في تقديم قصصهم، في تنظيم ما قارب 8 أمسيات عبر "بيت الحكايا السورية" في عدة مدن ألمانية عامي 2017 و2018، مدعومين من منظمة ألمانية غير ربحية.

وعن الكيفية الذي استطاع التعديل على هذه الشخصية وتقديمها بشكل عصري، يقول إنه حاول منذ البداية وتجسيده الشخصية عبر الراديو أن يطور الشخصية للوصول إلى حكواتي اليوم، بتقديم سيرة الزير سالم أو قصص كليلة دمنة مثلاً، مؤطرة بما يجري في المقهى السوري حالياً أو في سوريا من أحداث، كمقدمة وخاتمة للسيرة الشعبية، مضيفاً أن حكواتي اليوم يفتح الكمبيوتر المحمول ليقرأ ويستخدم المايكروفون، على خلاف الحكواتي الشعبي الذي عُرف تاريخياً، ويظل محافظاً على العبارات التقليدية التي تقال عند بدء السرد أو إنهائه.

ويهدف الفنان السوري والعاملون في المشروع معه إلى تعزيز التبادل الثقافي بين أفراد المجتمع السوريين اللاجئين لألمانيا والمجتمع المحلي، إذ يقول إنهم يحاولون ألا يتحدثوا عن سوريا فحسب أو عن ألمانيا وحسب، بل رواية قصص عن سوريا وأخرى عن الحياة في ألمانيا، موضحاً أن يهدفون لتعريف الجمهور الألماني بهم، وفي الوقت نفسه إيجاد جسر رابط بين الثقافتين والمجتمعين، أو ما يُسمى إعلامياً اندماج، مشيراً إلى أن يهدف إلى العمل على تطبيق تبادل ثقافي حقيقي بين أفراد من المجتمعين بتنظيم ورشات عمل مشتركة بين سوريين وألمانيا العام القادم عن رواية الحكايا.

لقطة من العرض / عربي بوست
لقطة من العرض / عربي بوست

كيف كان انطباع الحضور من الألمان؟

واستطلع "عربي بوست" رأي مشاهدتين للأمسية وانطباعاتهما عنها، فقالت الشابة ريغينه توربيونسنم، إحدى الحاضرات الألمانيات للعرض، إنها وجدته جميلاً جداً، وإنها سعيدة بإعادة أحياء هذا التقليد القديم، ومحاولة جعله أكثر عصرية، معبرة عن تأييدها لتكرار مثل هذه الأمسية، وسرد قصص أخرى، لافتة إلى دورها في تمكين الناس من التعرف على الآخرين القادمين من أماكن مختلفة، وتوفير فرصة لتبادل الأحاديث أكثر.

وقالت السيدة بيرغيت أدامس، التي حضرت الأمسية مع ابنتها الصغيرة، إنها تجد من المهم أن يشاهد الأطفال السوريين القادمين إلى ألمانيا، قصصاً عن حياتهم تروى بهذه الطريقة الحية، وتجد أنه من المهم أيضاً أن يعرف الألمان أكثر أيضاً كيف يعيش اللاجئون السوريون حياتهم هنا، وما الذي يفتقدونه، وكيف كانوا يعيشون سابقاً، ما يعزز التعاطف حيالهم من قبل الألمان والتعايش في المجتمع.

وأوضحت أن معرفة طريقة معيشة السوريين سابقاً وما يفتقدونه الآن بطريقة منفتحة هكذا، يجعل المرء يتعرف عليهم بشكل شخصي، الأمر الذي لا يتحقق في الحياة اليومية، في ظل ندرة لقاء الألمان وغير الألمان، وأنه ربما يجعل المشاهدين الألمان يكتشفون المشترك بين المجتمعين، موضحة أنه ما تبين من خلال القصص المروية في الأمسية الفارق في تخصيص الوقت للنقاشات غير الرسمية مساء في ألمانيا، حيث يتجه الجميع في ألمانيا للمنزل وإلى عالمهم بعد العمل، ولا يحصل الكثير من التواصل مع الآخرين، مقارنة مع سوريا التي تحدث فيها رواة القصص عن اجتماع الأصدقاء بشكل يومي.

وقالت السيدة أدامس إنها سعيدة بوجودها في الأمسية؛ لأنها طريقة جيدة للتواصل مع السوريين، لافتة إلى أنه سبق لهم وأن عاشوا في سوريا أيضاً، وتم استقبالهم ببساطة، وأنها تتأسف لعدم استقبال السوريين على هذا النحو دائماً في ألمانيا، وأن هذه طريقة جيدة ربما في الربط بين الناس.

ولدى سؤال "عربي بوست" الفنان داوود عن أبرز ردات الفعل التي ظلت في ذاكرته خلال مجمل أمسياته، تحدث الممثل السوري عن غناء ورقص مجموعة من الشبان والشابات خلال فاصل، بعد رواية قصصهم في إحدى الأمسيات، بينهم شابة تأثرت وبكت وهي تسرد قصتها، واقتراب أحد الحاضرين من الألمان منه، وقول إنه لم يعد يفهم الموقف إذ سمع القصة وصدق الشابة وتأثر بقصتها، والآن يراها سعيدة وهي ترقص، مخمناً بأن أحد الموقفين كاذب بالضرورة، فرد عليه بالقول إن حياة السوريين باتت هكذا بالفعل تجمع بين النقيضين، كأن يسمع أحدهم في اليوم نفسه خروج صديق لك من المعتقل فيفرح لأجل ذلك، ثم يصل خبر مقتل صديق آخر تحت التعذيب فيحزن لذلك.

تحميل المزيد