بحثاً عن الريالات غير النفطية وهرباً من صورتها المتشددة.. السعودية تطلق صناعة جديدة بخطوط حمراء لينة قليلاً

عربي بوست
تم النشر: 2018/10/03 الساعة 05:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/10/03 الساعة 05:20 بتوقيت غرينتش

في إحدى ليالي "الكوميدي كلوب" المزدحمة في مدينة جدة، وبينما كانت السعودية تستعد للسماح للنساء بقيادة السيارة، سأل أحد الممثلين جمهور النساء الحاضرات على يمين الصالة عن ماركات السيارات التي يعتزمن شراءها.

صاحت إحداهن: "مازيراتي"، وصاحت أخرى: "مرسيدس".

ردّ الممثل الكوميدي في استهجان: "هكذا بكل ببساطة؟ السيارة الأولى مازيراتي؟ إذا وجهت نفس السؤال إلى رجل، فسيجيب بأنه يرغب في اقتناء سيارة هيونداي، لأنه هو من يدفع ثمنها!".

بينما عجت الصالة بالضحك، كانت النادلات يتنقلن في أثوابهن الفضفاضة وقبعاتهن الحمراء بين ممرات المسرح الصغير في خفة، لتوزيع أكياس الفشار وقوالب الشوكولاتة على جمهور الشباب، الذي انشغل الكثير منهم بالتقاط الصور بهواتفهم النقالة لمشاركتها على إنستغرام وسناب شات.

داخل صناعة الترفيه في السعودية "تغيرت الأمور 180 درجة"

يقول ياسر بكر، مالك الكوميدي كلوب لصحيفة Los Angeles Times، إنّه قبل 6 سنوات كان مجرد الحصول على تصريح لفتح النادي معضلة كبرى. لم تكن عروض الكوميديا الارتجالية المباشرة (ستاند آب كوميدي) معروفة في البلاد، وكان موظفو الحكومة البيروقراطيون يرتابون من أي شيء جديد.

يقول بكر: "لم يكن أحدٌ يعرف هذا النوع من الكوميديا؛ لذا لم يكن الأمر يقتصر على طلب تصريح، بل أيضاً على شرح طبيعة هذا النوع من الكوميديا، ولماذا يتحدث هذا الرجل على خشبة المسرح عن طفولته وأمه".

أمّا الآن، فهناك هيئة حكومية جديدة تنظم الأنشطة الليلية والترفيهية، واسمها الهيئة العامة للترفيه -وهو اسمٌ على مُسمَّى- وتعرض عليه دعماً مادياً وتسأل كيف يمكنها أن تساعد "الكوميدي كلوب" في التوسع إلى المزيد من المدن.

قال بكر: "لقد تغيرت الأمور 180 درجة".

هذا التغيير هو جزء من حملة ولي العهد محمد بن سلمان، الذي يريد أن يقدم لأفراد شعبه البالغ عددهم 32 مليون شخص شيئاً لم يكن ذا أولوية قصوى: الترفيه.

سينما وحفلات وسيرك.. ومجمع ترفيهي أكبر مرتين ونصف من Disney World

وتوافد الآلاف من عشاق الكتب الهزلية وثقافة البوب، اعتلت وجوه بعضهم رسومات ملونة وارتدوا ملابس تنكرية، إلى معرض "كوميك كون" الثاني في جدة في شهر مارس/آذار.

اُفتتحت أول سينما جديدة منذ أكثر من ثلاثين عاماً في العاصمة، الرياض، في أبريل/نيسان من العام الجاري بعرض لفيلم "Black Panther" وهو أحد أنجح الأفلام في هوليوود.

وفي نفس الشهر، وضع الأمير ووالده الملك سلمان حجر الأساس لمجمع ترفيهي جديد خارج الرياض، يُقال إن حجمه أكبر بضعفين ونصف من حجم Disney World، وسيضم أماكن لسباقات السيارات ومنحدرات تزلج داخلية وملاهي مائية ومنتزه Six Flags ترفيهياً.

كما قدم عازف البيانو والملحن اليوناني الأصل ياني عرضاً في المملكة في ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي. ومن المقرر أن يقدم سيرك دو سوليه أول عروضه هناك في شهر سبتمبر/أيلول الجاري، باستخدام أزياء مصممة لتتوافق مع القيم المحافظة في البلاد.

الهدف منها أن يوجّه السعوديون ما ينفقونه في الخارج داخل المملكة

وتعد تلك المظاهر الترفيهية الجديدة جزءاً من خطة طموحة، يُطلق عليها رؤية السعودية 2030، تهدف إلى تنويع مصادر الاقتصاد الذي يعتمد على النفط بصورة أساسية وجذب الاستثمارات الخارجية وخلق فرص عمل للعدد المتزايد من الشباب الذين يلتحقون بالقوى العاملة.

ينفق السعوديون مليارات الدولارات سنوياً على الأنشطة الترفيهية في الخارج. ومن خلال زيادة خيارات الترفيه داخل البلاد، تأمُل الحكومة في تشجيع المواطنين على إنفاق المزيد من هذه الأموال داخل البلاد وجذب المزيد من الزوار.

والسيطرة على مشاعر الإحباط جراء الضرائب الجديدة

وقد تساهم صناعة الترفيه الجديدة في الحدّ من شعور الإحباط العام إزاء تدابير التقشف القاسية، التي تشمل الضرائب وارتفاع أسعار الوقود المحلي، الذي كان مدعوماً في جزءٍ كبير منه.

أدى انخفاض أسعار النفط الخام العالمية منذ عام 2014 إلى حدوث عجز في الميزانية، مما أضر بقدرة المملكة على توفير الوظائف الحكومية والمزايا الكبيرة التي اعتاد عليها العديد من السعوديين.

وصرف الانتباه عن سياسة ولي العهد ضد منتقديه

قد تخدم تلك الفعاليات المبالغ فيها غرضاً آخر للأمير: صرف الانتباه عن جهوده لتعزيز سلطته وإسكات المنتقدين. فلم تترافق الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية الأخيرة، بما في ذلك إلغاء الحظر طويل الأمد على قيادة النساء للسيارات، بأي انفتاح سياسي في البلاد، التي يهيمن عليها حكم ملكي مطلق.

5 آلاف فعالية يتم تحضيرها لهذا العام

تتولى الهيئة العامة للترفيه، والتي أُسست في مايو/أيار عام  2016، مسؤولية الإشراف العام على الاستثمارات الضخمة العامة والخاصة في قطاع الترفيه، وتخطط لتقديم أكثر من خمسة آلاف فعالية هذا العام، أي ضعف عدد الفعاليات التي قدمتها في عام 2017.

فتحت الباب لشركات جديدة تمولها الهيئة

وقد ظهرت العشرات من الشركات الجديدة لتلبية الطلب على المزيد من العروض والمهرجانات.

وتوفر لهم الهيئة التمويل والتدريب اللازميْن. كما اتخذت إجراءاتها لتيسير الإجراءات البيروقراطية المرهقة التي كانت تتطلب من المنظمين الحصول على تصاريح من ما يصل إلى اثنتي عشرة هيئة حكومية لتنظيم الفعاليات.

تقدّم الطلب أونلاين ثم تحصل على كل التصاريح اللازمة في يومين!

وقال فيصل بافرط، الرئيس التنفيذي للهيئة: "نحن نشبه مجمع خدمات متكاملاً. كل ما عليك فعله أن تتقدم بالطلب، وسنقدم لك كل التصاريح المطلوبة".

تُقدم  الطلبات عبر الإنترنت وعادة ما تتم مراجعتها في غضون 48 ساعة. بعد ذلك تعيّن الهيئة مدير مشروعات لضمان أن تُقدّم الفعالية على مستوى راقٍ وبما يتوافق مع لوائح وقيم المملكة.

والتحدي الأكبر وجود أشخاص مؤهلين للعمل في الهيئة

ومن بين التحديات التي تواجه الهيئة: إيجاد أشخاص مؤهلين للعمل في الهيئة. لا تقدم الجامعات السعودية الكثير حول موضوع الترفيه.

درس بافرط نفسه الهندسة الميكانيكية في جامعة سان فرانسيسكو وكان نائباً لحاكم الهيئة العامة للاستثمار في المملكة العربية السعودية.

تأييد جارف لولي العهد وجهود الترفيه بين الشباب أقل من 30

أكسبَ تخفيف القيود الاجتماعية الصارمة التي تفرضها المملكة وليّ العهد السعودي دعمَ السعوديين الذين تقل أعمارهم عن ثلاثين عاماً، والذين يشكلون حوالي ثلثي السكان في المملكة.

كان الكثيرون يبحثون عن الترفيه في دول العالم أثناء السفر أو الدراسة في الخارج، ويسعدهم الآن أن يكونوا قادرين على إيجاد أنشطة ترفيهية مماثلة في وطنهم الأم.

ولسان حالهم "الآن تشعر أنَّ هناك من يناضل من أجلك"

وقالت إسراء الحبشي (25 عاماً) التي تجري أبحاثاً على تكنولوجيا الطاقة المتجددة لصالح شركة النفط الحكومية العملاقة أرامكو: "قبل ذلك، كنت تشعر أن مجموعة من الناس المتشددين الصارمين يتحكمون في حياة الآخرين، ولكن الأمر لم يعد كذلك.. فالآن تشعر أنَّ هناك من يناضل من أجلك".

وفي إحدى أمسيات يوم السبت الحارة، انضمت إسراء إلى أصدقائها في جدة، الواجهة البحرية التي أعيد تجديدها مؤخراً، لحضور الليلة الأخيرة من مهرجان تدور فكرته حول القراصنة، وتشمل أنشطته خمس فقرات من الموسيقى الحية والرقص، وعروض بالليزر، ومتاهة مسكونة، وألعاب الملاهي وشاحنات طعام متنقلة.

خيارات الترفيه كثيرة ومتنوعة بعدما كانت مقتصرة على المطاعم والتسوق

من فعاليات مهرجان كوميك كون الأخيرة

جلست المجموعة، التي تضم شباناً وفتيات التقوا يوماً في إحدى جامعات كندا، إلى طاولة خشبية بسيطة لتناول شطائر البرغر أثناء الاستماع إلى فرقة جاز محلية تؤدي نسختها من الأغنية الناجحة "Despacito".

على مسرح قريب، بدأت فرقة من مقلدي رقصات الهيب هوب في أداء أغنية Thriller لمايكل جاكسون، وانطلقت صيحات البهجة من حناجر النساء في الحضور، وقد ارتدى كثير منهن العباءات السوداء التقليدية ونقاباً لتغطية الوجه.

كان هذا على النقيض تماماً مما كان يحدث قبل عام واحد فقط، عندما كان الخروج ليلاً بالنسبة لإسراء يعني عادة تناول العشاء أو التجول في أحد مراكز التسوق الراقية في المملكة العربية السعودية لرؤية السلع المعروضة.

في كثير من الأحيان، كانت تفضل البقاء في المنزل والاكتفاء بمشاهدة Netflix.

تقول إسراء: "لم يكن هناك ما نفعله تقريباً".

لكن الوضع لم يستقر بعد.. ومعارضة هذه النشاطات حاضرة

ومع ذلك، لا تثير تلك الأجواء الجديدة إعجاب الجميع. فلا تزال بيئة البلاد محافظة بشكل كبير؛ بل إن بعض السعوديين الأصغر سناً لا يشعرون بالارتياح تجاه وتيرة حدوث ذلك التغيير ومداه.

في يونيو/حزيران الماضي، أُقيل رئيس هيئة الترفيه، أحمد خطيب، من منصبه على نحو مفاجئ بعد أن انتقده نشطاء الشبكات الاجتماعية بسبب عروض السيرك الروسي التي تضمنت نساء يرتدين أزياء غير محتشمة، حسب ما أورده موقع سبق الإخباري الداعم للحكومة.

ويخشى آخرون ممن يرحبون بالتغييرات من أنَّ الأمير قد يثير ردود أفعال عنيفة لدى أعضاء المؤسسة الدينية الوهابية المتشددة التي تمنح الشرعية للعائلة الحاكمة.

وقد اعتُقل رجال الدين الذين عارضوا إصلاحات الأمير الاجتماعية وجُردت الشرطة الدينية من سلطتها التي تخول لها اعتقال الناس.

البعض يخشى من أن تتحول السعودية إلى دبي أخرى.. "ملابس متحررة وحانات"

وقالت أم أحمد، وهو اللقب التقليدي الذي اختارته لتطلقه على نفسها أثناء الحديث خشية أن تُتهم بانتقادها للمملكة، وهي أم لطفلين وتبلغ من العمر 35 عاماً: "أنا أحب تلك الإصلاحات، لكنني أعتقد أنهم يمضون فيها أسرع من اللازم".

وتشعر أم أحمد بالقلق من أن تفقد بلدها هويتها الثقافية المميزة وتتحول إلى دبي أخرى، حيث تنتشر الحانات والملابس الأكثر تحرراً.

حتى هدوء التيارات الدينية المعارضة لا يطمئن

وقالت: "إنه أمر غريب بالنسبة لنا، لأننا نشأنا على تحريم الكثير من الأشياء، وفجأة، تظهر عروض بالليزر، ومهرجانات مختلطة [رجال ونساء]، ومثليون يتجولون بحرية في الشوارع".

وتابعت قائلة: "كل هذا جميل، لكني أشعر بالقلق من السعوديين المغرقين في التدين، إنهم هادئون الآن، ولكن إلى متى سيظلون هادئين"؟

ولكن الانفتاح ما زال مقيداً بما يناسب العائلات

في الكوميدي كلوب، تبدأ سلسلة طويلة من العروض كل ليلة خميس، وهي بداية عطلة نهاية الأسبوع في السعودية.

وقد اعتمدت الحكومة النادي مؤخراً باعتباره مكاناً مناسباً لتجمع العائلات، مما يعني أنه لم يعد على الرجال والنساء هناك الدخول عبر أبواب منفصلة أو الجلوس في أقسام منفصلة.

ومع ذلك، ظلت بعض الأشياء على حالها: فلا توجد مشروبات كحولية يمكن طلبها. بدلاً من ذلك، يرتشف الزبائن مشروب الكابتشينو.

يقول بكر: "لقد قدمت عروضاً في الولايات المتحدة، وعليَّ أن أخبركم أنه من الأسهل بعض الشيء أن تكون مضحكاً للجمهور عندما ينتهي من استهلاك مشروبين كحد أدنى".

السياسة والدين والجنس خطوط حمراء

لا يزال تناول بعض الموضوعات محرماً إلى حد كبير، لا سيما تلك المواضيع التي تتعلق بالسياسة والدين وما يشير إليه بكر بـ"محتوى +18″.

يقول بكر: "لا يعني هذا أننا لا يمكن أن نسخر من النفاق الديني. نحن نفعل ذلك طوال الوقت، ولا يعني أيضاً أنه لا يمكننا أن نسخر من البيروقراطية الحكومية. نفعل ذلك طوال الوقت. مثلما لا يعني أننا لا نستطيع أن نسخر من الشعور بالتوتر تجاه الجنس".

لكن لا بأس من انتقاد الفكر المتشدد

وفي عرض قدمه مؤخراً، سخر بكر من الفكر المتشدد في  البلاد.

وقال بكر في تجهم مصطنع: "إن كثرة الابتسامات ستجلب لك المتاعب في المملكة العربية السعودية، وجبات ماكدونالدز السعيدة في المملكة العربية السعودية لا تُسمى الوجبات السعيدة. وإنما يطلق عليها "وجبات الطعام للصغار" (هابي ميل) ولا تصحبها لعبة. الألعاب ممتعة جداً".

وانفجر الجمهور ضاحكاً.

تحميل المزيد