توصَّلَت دراسةٌ جديدة إلى أن ارتفاع درجات الحرارة مرتبطٌ بازدياد معدلات الانتحار. بل ويُحذِّر الباحثون من أن تأثير التغيُّر المناخي على معدلات الانتحار قد لا يقل عن تأثير الركود الاقتصادي، المعروف برفعه معدلات إلحاق الأذى بالنفس.
وقد يعتقد البعض أن الارتباط بين حالات الانتحار وازدياد درجات الحرارة يحدث فقط في الهند، أو في الدول النامية والفقيرة بشكل عام، ولكن في عام 2011 نُشرت دراسة علمية تتحدث عن ازدياد حالات الانتحار بين المزارعين في أستراليا، في الفترة ما بين عامي 1970 و2007، وتوضح الدراسة أن حالات الانتحار بين المزارعين الأستراليين، بخاصة الذين تتراوح أعمارهم بين 30-49 عاماً ازدادت بنسبة 15%، بسبب الارتفاع الملحوظ في درجات الحرارة، الناتج عن تغير المُناخ.
وصحيحٌ أنه لم تُبحَث من قبل العلاقة بين الصحة النفسية والاحتباس الحراري العالمي بصورةٍ واسعة، لكنَّ تقريراً لصحيفة The Guardian البريطانية، يوضح أن البحث الجديد قام بتحليل درجات الحرارة وحالات الانتحار على امتداد الولايات المتحدة الأميركية والمكسيك في العقود الأخيرة.
وقد توصَّل إلى نتائج، مفادها أن معدل الانتحار يرتفع بنسبة 0.7% في الولايات المتحدة الأميركية، وبنسبة 2.1% في المكسيك، مقابل كل درجةٍ مئويةٍ زائدةٍ في متوسط درجة الحرارة الشهري.
الفترات الأشد حرارةً أدت إلى حالات انتحارٍ أكثر
أُجري هذا التحليل على مستوى المقاطعات، وقد وُضِعَت في الاعتبار التباينات الموسمية، ومستويات الفقر، وحتى أخبار انتحار المشاهير التي يحتمل أن تُسبِّب مزيداً من الوفيات. وقد وجد العلماء أن النتائج تشير إلى أن الفترات الأشد حرارةً أدَّت إلى حالات انتحارٍ أكثر، بغضِّ النظر عن مستوى الدخل والمناخ المعتاد للمنطقة.
يقول البروفيسور مارشال بورك، من جامعة ستانفورد الأميركية، وزملاؤه الذين نشروا بحثهم في مجلة Nature Climate Change: "إن تحديد ما إذا كانت معدلات الانتحار تتأثر بالظروف المناخية أم لا هو أمرٌ مهم؛ إذ تُعزى للانتحار وحده أعدادُ وفياتٍ تفوق عالمياً ما ينتج عن كافة أشكال العنف مجتمعةً، وهو يأتي في مرتبةٍ بين العاشرة والخامسة عشرة في قائمة أسباب الوفاة الأكثر شيوعاً في العالم".
ويتابعون: "حتى أقل تغييرٍ في معدلات الانتحار الناجمة عن التغيُّر المناخي قد تؤدي إلى تغييراتٍ كبيرة، في العبء الذي تحمله منظمة الصحة العالمية، خصوصاً في الدول الأغنى، حيث تعتبر معدلات الانتحار الحالية مرتفعةً نسبياً". خلال الأسابيع الماضية شهدت مناطق متفرقة من العالم تسجيل درجات حرارةٍ غير مسبوقةٍ، ومن المُرجَّح أن التغيُّر المناخي هو السبب في ذلك.
وتؤثر حتى على الكلمات المستخدمة في شبكات التواصل الاجتماعي
ولا يستطيع هذا النوع من الدراسات أن يبرهن على وجود صلةٍ سببيةٍ بين ارتفاع درجات الحرارة وزيادة معدلات الانتحار. غير أن النتائج تظهر "اتساقاً مذهلاً" مع مرور الوقت، وفي مناطق مختلفةٍ وفقاً لما قاله العلماء. ظهرت دراسةٌ أخرى في الهند دعمت النتائج أيضاً، وأثبتت وجود صلةٍ بين التغيُّر المناخي وستة آلاف حالة انتحارٍ خلال العقود الثلاثة الماضية.
وحلَّل الباحثون كذلك أكثر من 600 مليون رسالة على موقع تويتر، ووجدوا أن استخدام كلماتٍ كئيبةٍ، مثل وحدي، وقاتم، ووحيد، ومحبوس، يزداد بارتفاع درجات الحرارة. وعلَّقوا قائلين: "يطرح هذا أن الحالة النفسية تتدهور خلال الفترات الحارة". أحد التفسيرات الممكنة لهذه الظاهرة هو أن تدفُّق الدم للمخ يتغيَّر عندما يحاول الجسد تبريد نفسه في الأوقات الأشد حرارةً.
وإذا لم تتراجع معدلات انبعاثات الكربون الحالية، فإن العلماء يُقدِّرون أن تحدث ما بين 9 آلاف إلى 40 ألف حالة انتحارٍ بحلول العام 2050 في الولايات المتحدة وكندا وحدهما، بسبب التغيُّر المناخي. وهذا العدد من الوفيات أكبر بكثيرٍ مما يمكن أن يقع في حال ارتفاع معدلات البطالة بنسبة 1%، بسبب ركودٍ اقتصاديٍ وفقاً لما يقوله الباحثون. فيما أظهر باحثون آخرون بوضوحٍ، أن ارتفاع الحرارة يزيد من معدلات العنف بين الناس.
بل وتؤثر حتى في تحديد الصفات الشخصية والاجتماعية للبشر
في نوفمبر/تشرين الثاني، نشرت مجلة "Nature" العلمية دراسة تكشف العلاقة بين تغير المُناخ وبين تحديد الصفات الشخصية والاجتماعية للبشر، ودُعمت هذه الدراسة ببعض التجارب العملية، في واحدة من هذه التجارب قام الباحثون بدراسة الصفات الاجتماعية لطفلين، أحدهما نشأ في مدينة "سان فرانسيسكو" المعروفة بطقسها الدافئ، والآخر نشأ في مدينة "ماركيت" بولاية ويسكونسن الأميركية، ذات الطقس البارد في معظم أوقات السنة.
ومن أجل التأكد من صحة التجربة، كانت هناك مجموعة من الشروط التي توافرت في الطفلين؛ فهما ينتميان لنفس نظام التعليم والتأمين الصحي، ونشآ في ظروف اقتصادية متشابهة، بالإضافة إلى تشابه الظروف في الحي والبيئة المحيطة بالمنزل الذي نشأ فيه كل منهما. وكانت نتيجة التجربة أن الطفل الذي نشأ في مدينة "سان فرانسيسكو" يتميز بأنه أكثر انفتاحاً ولطفاً وتقبلاً للآخرين، ويمتلك ثباتاً عالياً نسبياً في العواطف والانفعالات.
وهو ما قد يفسر انتحار 300 ألف مزارع بالهند
وفي دراسة قامت بها جامعة كاليفورنيا لدراسة العلاقة بين ارتفاع معدل الانتحار بين المزارعين في الهند وبين ارتفاع درجات الحرارة بسبب التغير المناخي، وجد أنه كلما ارتفعت درجات الحرارة بمقدار خمس درجات سيليزية، تزداد حالات الانتحار بين المزارعين 335 حالة تقريباً، أي أنه مع كل درجة سيليزية تزداد في الهند، ينتحر 67 مزارعاً.
وبسبب الارتفاع المتزايد في درجات الحرارة، سُجلت حتى الآن أكثر من 300 ألف حالة انتحار بين المزارعين في الهند منذ عام 1995. وفي دراسة أخرى بشأن تغير وارتفاع درجات الحرارة في الهند؛ وجد أن درجات الحرارة في الهند ترتفع بمعدل 0.5-2.5 درجة سليزية سنوياً منذ عام 1960، ومن هذه النتائج يمكن توقع أن الهند سوف تفقد على الأقل بين ألف وألفي مزارع سنوياً، وهذا إن لم تتمكن الحكومة الهندية من الوصول لحل هذه الأزمة.