هل سبق لك أن سمعت عن “وباء ستراسبورغ للرقص”؟.. حكاية مدينة قرَّر مسؤولوها طرد “الغضب الإلهي” بالرقص، فكان الموت مصيرهم

عربي بوست
تم النشر: 2018/07/05 الساعة 20:21 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/07/08 الساعة 13:50 بتوقيت غرينتش

بدأ الأمر بعددٍ قليلٍ من الناس يرقصون بالهواء الطلق في حرارة الصيف. الأذرع تتحرك، والأجساد تتمايل، والملابس غارقة بالعرق، رقصوا طوال الليل وحتى في اليوم التالي. نادراً ما يتوقفون لتناول الطعام أو شرب المياه، ويبدو أنَّهم غافلون عن الإرهاق المُتزايد وألم الأقدام المُتكدمة، وكانوا سيستمرون أياماً لاحقة. وبحلول الوقت الذي تدخلت فيه السلطات، كان هناك مئات آخرون يرقصون بالأسلوب المحموم نفسه.

صحيفة The Guardian البريطانية قالت  إنَّ هذه لم تكن إحدى رقصات الثمانينيات، تلك التي بدأت بموقف سيارات ناءٍ وانتهت في حقلٍ مُوحلٍ. ولكنها واحدة من الأوبئة الأكثر غرابةً التي سُجلَّت في تاريخ العالم. وقد حدثت منذ 500 عام بمدينة ستراسبورغ الفرنسية. وهناك، وعلى مدار 3 أشهر شديدة الحرارة في عام 1518، تطوَّر لدى عدة مئات من الناس شعور بأنهم مرغَمون على الرقص. وما أثار صدمةَ الحشود التي تَجمعت لمشاهدة ما يحدث هو أنَّ الرقص استمر حتى انهار بعض الناس وتوفوا في الحال. فماذا كان يحدث؟!

شهادة طبيب متعجرف تحكي قصة وباء ستراسبورغ للرقص

ووفقاً لشهادة كتبها طبيب مُتعجرف ولكنه بارع -يُدَّعى باراسيلسوس– في ثلاثينيات القرن الـ16، فقد بدأ "وباء ستراسبورغ للرقص" في منتصف يوليو/تموز عام 1518، عندما خرجت امرأة وحيدة من منزلها وأخذت تهتز عدة أيام دون توقُّف! في غضون أسبوع، سيطرت الرغبة نفسها التي لا تُقاوم على عشرات آخرين.

ولم يجد المواطنون الأغنياء الذين يديرون المدينة هذا الأمر مسلياً. وقد خصص أحدهم، وهو الكاتب سيباستيان برانت، فصلاً من كتابه الواعظ الأكثر مبيعاً "Ship of Fools"، للتحدث عن حماقة الرقص. كان هو وزملاؤه من أعضاء مجلس المدينة مُستائين من الفوضى في الشوارع، واستشاروا أطباء محليِّين، الذين أعلنوا، تماشياً مع الحكمة الطبية المعيارية، أنَّ الرقص هو نتيجة "دم تعرَّض لدرجة حرارة مرتفعة أكثر من اللازم" في الدماغ.

ونفَّذ أعضاء مجلس المدينة ما شعروا بأنَّه العلاج المناسب: المزيد من الرقص! وأمروا بإخلاء سوق حبوب موجود في الهواء الطلق، وصادروا قاعات النقابة، وأقاموا مسرحاً بجوار معرض الخيل.

ورافقوا إلى هذه المواقع الراقصين المجانين؛ اعتقاداً منهم أنَّه من خلال الحفاظ على الحركة المشحونة، فإنَّهم سوف سيتخلصون من المرض. حتى إن هؤلاء الأغنياء استأجروا عازفي مزامير وطبول، ودفعوا أجوراً لـ"رجال أقوياء"؛ لإبقاء المنكوبين واقفين على أقدامهم عن طريق الإمساك بأجسادهم وهم يتمايلون ويتأرجحون. وظل أولئك الذين كانوا في سوق الحبوب ومعرض الخيول يرقصون تحت الوهج الكامل لشمس الصيف، في مشهد غريب بشكلٍ شيطاني يُشبه ما تخيَّله الرسام الهولندي هيرونيموس بوش، الذي تُصور أعماله الخطئية والفشل الأخلاقي الإنساني.

وتشرح قصيدة في أرشيف المدينة ما حدث بعد ذلك: "In their madness people kept up their dancing until they fell unconscious and many died"، والتي تقول: "استمر الناس في جنونهم يرقصون حتى فقدوا الوعي ومات الكثيرون".

القصة تقول إن الراقصين يعانون غضباً إلهياً مقدساً

وشعر مجلس المدينة بأنَّه ارتكب خطأ. وانطلاقاً من قراره أنَّ الراقصين يعانون غضباً إلهياً مقدساً وليس أدمغة تحترق، اتجه أعضاء مجلس المدينة لفرض فترة من التوبة القسرية، وحظروا الموسيقى والرقص في الأماكن العامة. وأخيراً، اقتيد الراقصون إلى ضريح جرى إهدؤئه للقديس سانت فيتوس، والذي يقع في كهفٍ جبلي بالتلال فوق بلدة "سافرين" القريبة، حيث وُضعت أقدامهم المُلطخة بالدماء داخل أحذية حمراء ووُجِّهوا حول تمثال خشبي للقديس. ووفقاً للتاريخ، ففي الأسابيع التالية توقفت معظم حركاتهم الهمجية. وانتهى الوباء.

ويثير هذا الفصل الغريب من التاريخ البشري الكثير من الأسئلة التي يَصعُب الإجابة عنها. لماذا وصف مواطنو المدينة الأغنياء المزيد من الرقص باعتباره علاجاً للأدمغة المُستعرة؟ لماذا أُجبر الراقصون على ارتداء أحذية حمراء؟ وكم عدد من ماتوا؟ (وتوقَّع كاتب كان يعيش بالقرب من المدينة أن 15 شخصاً ماتوا يومياً، وذلك على الأقل لفترة، إلا أنَّ هذا الأمر لم يُؤكَّد).

ويُعتقد أنَّه يُمكننا أن نكون أكثر ثقة، في سرد ما تسبب في هذه الظاهرة الغريبة وما لم يكن سبباً لها. لبعضٍ من الوقت، بدا أن التسمم بالأرغوت مُنافساً جيداً. ويُصاب به الإنسان عن طريق استهلاك أغذية ملوثة بنوع من العفن الذي ينمو على الجاودار الرطبة ( حبوب مثل القمح والشعير يصنع منها الخبز) ويُنتج مادة كيميائية ذات صلة بمادة ثنائي إيثيل أميد حمض الليسرجيك. ويمكن أن تُحفز نوعاً من الهلوسة المُروعة وانتفاض الجسم بعنف.

ولكن من الصعب أن يكون من يعانون ذلك المرض قد رقصوا عدة أيام. كما أنَّه من غير المحتمل ادعاء أنَّ الراقصين كانوا يثيرون فتنة دينية. كان من الواضح للمراقبين أنَّهم لم يكونوا يريدون أن يرقصوا. إنَّ التفسير الأكثر مصداقية، في رأيي، هو أنَّ أهل ستراسبورغ كانوا ضحايا لحالة نفسية جماعية، وهو ما كان يُطلق عليه "الهستيريا الجماعية".

هذا ليس النمط الوحيد من أنماط الرقص في القرون السابقة

كان هناك العديد من تفشّيات الرقص الأخرى في القرون السابقة، والتي شملت المئات أو عدداً قليلاً من الناس، وكلها تقريباً في البلدات والمدن التي على مقربة من نهر الراين. وإلى جانب التجار، والحجاج، والجنود الذين سافروا عبر هذه المياه، كانت الأخبار والمُعتقدات تُسافر أيضاً. يبدو أنَّ فكرة معينة قد استقرت في الوعي الثقافي للمنطقة، وهي أنَّ القديس فيتوس يمكن أن يُعاقب الخُطاة بجعلهم يرقصون! وتُبين لوحة في كاتدرائية كولونيا، على بُعد أكثر من 200 ميل (نحو 321 كيلومتراً) من ستراسبورغ، اللعنة: تحت صورة القديس فيتوس، 3 رجال يرقصون دون بهجة، وتكسو وجوهَهم تعبيراتُ هذيانٍ مُنفصلة عن الواقعية.

ومثلُ هذا الاعتقاد في القوة الخارقة للطبيعة يمكن أن تكون له تأثيرات كبيرة على سلوكنا. وإحدى الحالات التقليدية هي "الاستحواذ على الروح"، حيث يتعامل الناس كما لو أن روحاً أو ألوهية قد استولت على أرواحهم.

وكتبت العالمة الأميركية بمجال علم الإنسان إريكا بورغينيون عن نشأتها في "بيئة تطغى عليها المعتقدات"، حيث يؤخذ موضوع الاستحواذ الروحي على محمل الجد، ويُدفع الناس إلى الدخول في حالة عقلية انفصالية، يُعطل فيه الوعي الطبيعي. ثم يتصرف الناس وفقاً للأفكار المتعارف عليها ثقافياً عن الطريقة التي ينبغي أن يتصرف بها الأشخاص المُستحوَذ عليهم.

هذا ما حدث في الأديرة الأوروبية قبل أوائل القرن الـ18 الميلادي، عندما كانت الراهبات تتلوى، وتتشنَّج، ويُخرجن رغوة من فمهن، ويصنعن إيماءات واقترحات فاحشة، ويتسلقن الأشجار، ويُصدرن أصواتاً مثل القطط. بدا سلوكهن غريباً، إلا أنَّ الراهبات عشن في مجتمعات شجعتهن على الهوس بالخطيئة وكُنَّ غارقات في أجواء صوفية خارقة للطبيعة. أولئك اللاتي أصبحن مُقتنعات بأنَّ الشياطين قد دخلت إلى أرواحهن كانوا عُرضة للدخول في حالات انفصالية، فعلن فيها بالضبط التصرفات التي قال اللاهوتيون وطاردو الشياطين إن الذين تملَّكتهم الشياطين كانوا يفعلونها. في مثل هذه الحالات، كانت غفوة الاستحواذ تمتد أيضاً إلى الشهود الذين يتشاركون في المخاوف اللاهوتية نفسها.

ويمكن أن تنطبق هذه الملاحظات بالتأكيد، على ما حدث في ستراسبورغ عام 1518. إنَّ لعنة القديس فيتوس هي مجرد نوع من الاعتقاد الخارق للطبيعة، الذي يمكن أن يدفع الشخص سهل التأثر إلى حالات انفصالية. ويتفق المؤرخون على أنَّ معظم الناس سارعوا إلى افتراض أنَّ القديس فيتوس الغاضب هو الذي تسبب في المُصيبة. لذلك كل ما تَطلَّبه الأمر هو عدد قليل من المؤمنين والضعفاء عاطفياً ليعتقدوا أنَّ القديس فيتوس كان يستهدفهم لإدخالهم في حالة غشية شعروا فيها بأنَّهم مُضطرون إلى الرقص أياماً. إذا كان جنون الرقص حالة مَرَضية نفسية جماعية حقاً، فيمكننا أيضاً أن نرى السبب في أنَّها أصابت هذا العدد الكبير من الناس: كان من الممكن أن تفضي بضعة أفعال قليلة إلى إثارة وباء نفساني شامل أكثر من قرار مجلس المدينة نقل الراقصين إلى أكثر أجزاء المدينة عُمومية. فكونهم على مرأى البصر ضَمِن أن سكان المدينة الآخرين أصبحوا عُرضة للإصابة بالحالة؛ لأنَّ عقولهم أخذت تتفكر في خطاياهم وإمكانية أن يكون دورهم هو المُقبل.

انتشار الضيق مهَّد الطريق لتفشِّي التأثر بالإيحاء ومن ثم أنماط الرقص المختلفة

إنَّ الحياة بستراسبورغ في أوائل القرن الـ16 قد استوفت عنصراً أساسياً آخر لتفشي المرض النفسي: فالسجلات التاريخية تعرض وجود الكثير من الضيق الذي يجلب درجة عالية من سهولة التأثر بالإيحاء. كما تسببت الصراعات الاجتماعية والدينية، والأمراض المروعة الجديدة، والفشل في الحصاد، وارتفاع أسعار القمح بانتشار البؤس على نطاقٍ واسع. ووصفَ مؤرخٌ عامَ 1517، بإيجاز مؤثر، بأنَّه "عامٌ سيئ". وفي الصيف التالي، كانت دور الأيتام، والمستشفيات، والملاجئ تفيض باليأس. كانت هذه الظروف مثالية لبعض سكان المدينة الذين يحتاجون إلى تخيل أنَّ الله غاضبٌ منهم وأنَّ القديس فيتوس كان يجول شوارعهم خلسة.

لحسن الحظ، كان وباء الرقص الذي وقع عام 1518 هو الأخير من نوعه بأوروبا. في جميع الاحتمالات، تراجعت إمكانية حدوث مزيد من تلك الحالات مع تراجع أنظمة المعتقدات التي كانت تُساعد على حدوثها. وفي ضوء ذلك، يُبرز جنون الرقص قوة السياق الثقافي في تشكيل الطريقة التي يجري التعبير بها عن المعاناة النفسية.

وتُسترجع الذكرى المئوية الخامسة للوباء الراقص هذا العام (2018) في معرض بمتحف Musée de l'Oeuvre Notre-Dame في ستراسبورغ، بفيلم وثائقي تلفزيوني قيد الإنتاج، ونشر رواية للمؤلف الفرنسي جان تولي، وحتى بحفل فني نظمته مجموعة من منسقي الأغاني الذين أطلقوا على الحفل اسم "1518". ولم لا؟ تكشف أحداث قليلة بشكل أكثر وضوحاً عن الدرجة شديدة الغرابة التي يمكن لأدمغتنا أن تأخذنا إليها عندما نكون في قبضة الخوف الجماعي.