"نَعْسي معايا (ضاجِعيني)، أو رجْعي (عودي) لبلادك"، هذا ما حاول مسؤول إسباني بإحدى مزارع "هويلفا" في جنوب إسبانيا إيصال معناه للعاملة المغربية، فلا هو يفهم العربية ولا هي على دراية باللغة الإسبانية.
المسؤول الإسباني المعروف بين العاملات بمحاولة استمالته للنساء، بعد أن صدَّته نعيمة، البالغة من العمر 37 عاماً، وعمدت إلى إبعاده عن جسدها، ثبَّت كفَّيه على خصرها وشدَّها إليه عنوة، لتبدأ في الصراخ طلباً للنجدة.
نعيمة صحبة الآلاف من النساء المغربيات سافَرن نحو الشَّمال، وتحديداً صوب حقول الفراولة بالجارة الإسبانية، حالِماتٍ بغدٍ أفضل وبمدخول مادي يُعينُهُن على تربية أطفالهن، مغربيات شابات متزوجات ومطلقات وأرامل حملتهُن رياح العمل صوب إسبانيا، إلا أنَّ الحلم الوردي انتهى بكابوس اعتداءات جنسية ومشاكل مهنية بالجُملة.
ضجَّة كبيرة خلقها مؤخراً ملف عاملات الفراولة بإسبانيا ممَّن كشفن عن تعرضهن للابتزاز الجنسي، حيث غدا "الجنس مقابل الاستمرار في العمل أو لاستخلاص المستحقات المالية".
الابتزاز الجنسي.. حقيقة لا خيال
الملف الشائك، الذي تخطَّى حدود المغرب وإسبانيا، استدعى تدخُّل سُلُطات البلدين؛ لتقصي حقيقة ما يقع بحقول إقليم "هويلفا" الشاسع بالأندلس، حيث شكلت الحكومة المغربية، أخيراً، لجنة تحقيقٍ، محاوِلة تجميع خيوط القضية وتتبُّع قصص "عاملات الفْريزَة".
مصادر خاصة بـ"عربي بوست"، أكدت أن نحو 18 ألف امرأة مغربية عملت في حقول "هويلفا" هذا الموسم، لا يتكلمن الإسبانية ولا دراية لهن بالقانون، كما لا يطلبن أصلاً المساعدة من طرف المؤسسات العامة أو النقابات أو المنظمات المدنية في حالة تعرُّضِهن لإساءة من أي نوع؛ خوفاً من ترحيلهن وضياع فرصة ادخار بعض اليوروهات.
نعيمة، وبعد محاولات متكررة، اقتنعت بأنْ تقدِّم شكواها للسلطات الإسبانية.. تحكي بصوت مُرتجف كيف أنه فاجأها وهي متوجهة للاستحمام بعد يوم عمل طويل، ذلك أن الحمامات توجد خارج الغرف السكنية المُتراصَّة بعضها قرب بعض. صرخاتها فقط هي ما دفعه لإفلاتها والهرب قبل أن تتجمع عاملات أخريات على الشابة، التي كانت ترتعد خوفاً وعلى وشك الإغماء، خاصة أنها في شهر حملها الرابع.
ظروف الشُّغل.. المسكوتُ عنه
قرابة عقدين من الزمان مرَّا على توجُّه أول فوج يضم آلاف النساء المغربيات إلى إسبانيا وفق عقود عمل موسمية لجني الفراولة والفواكه الحمراء؛ إذ يُشترط على الراغبات في العمل أن يكنَّ متزوجات، مطلقات أو أرامل، ولديهن أطفال؛ حتى يتم التأكد من عودتهن للبلاد بعد انقضاء موسم الجني، على أن تتراوح أعمارهن بين الـ30 والـ45."
"ليس من السهل على أي كانت الاشتغال بحقول الفراولة؛ تعب وشقاء وساعات إضافية بتعويض زهيد"، تقول فتيحة لـ"عربي بوست" قبل أن تُكمِل متنهدة: "لم يكن من السهل عليَّ مواجهة ذاك الشقاء إلا بالصبر وتذكُّر حقيقة تركي 4 من أبنائي لأتمكن من بناء بيت يَقيهم البرد والحر، خاصة أنهم يتامى وكُنَّا نقطن جميعاً ببيت والِدَي زوجي المُتوفى".
فتيحة، التي توقفت عن السفر صوب المزارع الإسبانية منذ 4 سنوات، والمنحدرة من قرية نواحي مدينة قلعة السراغنة، بالقرب من مراكش، مكَّنَتها مُدخراتها من تشييد بيت قروي وتأثيثه، فضلاً عن تأسيس محل بقالة صغير تعيش على مردوده المادي هي وأبناؤها.
وتلاحظ سميرة موحيا، رئيسة فيدرالية رابطة حقوق النساء، أن هذا النظام الموسمي للهجرة ينطوي على انتهاكات جسيمة لحقوق العاملات ممن يجدن أنفسهن في مواجهة ظروف عمل لا إنسانية وصعبة؛ إذ إن هناك من العاملات من تحمل صناديق معبَّأة بالفراولة على ظهرها وتسير بها مسافات طويلة دون أن تشتكي.
وأضافت موحيا، خلال حديثها لـ"عربي بوست"، أن التجاوزات الحقوقية والقانونية تنطلق من المغرب، الذي لا يحرص مسؤولوه على صيانة كرامة مواطناته، وتوجيههم بالحدِّ الأدنى من التوعية حول قانون الشغل، متسائلةً عن أسباب عدم تقييم المواسم الفلاحية السابقة عبر تسليط الضوء على مشاكل العاملات وظروف العمل وفرض أخرى أفضل على إسبانيا مستقبلاً في حال أرادت الاستفادة من اليد العاملة المغربية.
نحن عبيد!
الظروف الاقتصادية والاجتماعية القاسية التي تعيشها قرويات مغربيات، دفعتهن دفعاً للموافقة على السفر إلى إسبانيا دون التدقيق كثيراً في بنود عقد العمل إن وُجد أصلاً، في حين تُنتزع جوازات السفر الخاصة بهن ما إن يصلن للمَزارع، كما تشرح الحقوقية.
الأغلبية الساحقة من الأمهات غير متعلمات، ولا دراية لهُن باللغة الإسبانية، ينتظرن أجراً مقابل العمل بالإضافة إلى مسكن ومأكل لائق وفق الوعود التي تلقَّينها بالمغرب ما لم تجدنه على أرض الواقع، وفق ما تؤكده سعاد، إحدى عاملات الفراولة خلال موسم الجَني الجاري.
العاملة التي أمضت شهوراً بإحدى مزارع إسبانيا قبل عودتها منذ أيام قليلة، أكدت لـ"عربي بوست"، أن أول صدمة تُصيب المغربيات العاملات تتمثل في عدم مجانية السكن وفق الوعود المقدمة، "وجَدنا أنفسنا مضطرات إلى أداء مبلغ 3 يوروهات يومياً من أجل غرفة مشتركة تتقاسمُها 5 أو 6 عاملات، وعلينا دفع فواتير الماء والكهرباء كذلك، ونعمل تحت الشمس الحارقة لمدة 8 ساعات مقابل 15 يورو أو حتى أقل".
عاملات مغربيات تجاوز عددهن 3 نساء، فتحن قلبهن لـ"عربي بوست"، أكَّدن جميعاً أن عقود العمل لا تُطبَّق وتبقى حِبراً على ورق، "يُبلِغوننا بداية بخضوعنا لأسبوعين من التدريب على عملية اقتلاع الفراولة والفواكه الحمراء، ونفاجأ منذ أول يوم عمل بأن من تخطئ منا تُحرم من العمل يومين أو ثلاثة دون أجر".
تحكي "عاملات الفريزة"، كيف أنهنَّ محرومات من التَّوجه للمراحيض في أثناء فترة العمل، زيادة على أن التوقف لأخذ قسط من الراحة بسبب آلام الظهر ممنوع، أما سعاد ففضلت وصف ما لاقته بالقول إن "حُلمها مات، فهي ومن معها مجرد عبيد سِيقوا من المغرب صوب إسبانيا" وفق تعبيرها.
عادت عاملات إلى أرض الوطن عقب انتهاء موسم الجني، في حين بقيت أخريات، خاصة منهن المشتكيات ممن تعرضن للتحرش الجنسي في إسبانيا ممن يحقق القضاء الإسباني في وقائع تعرضهن للاغتصاب بحقول الفراولة.
ومن بين الآلاف، 7 مغربيات فقط، بالإضافة إلى عاملتين من جنسية أخرى هن من امتلكن شجاعة التبليغ عن المتحرشين، لتتم إحالة شكاياتهن إلى المدعي العام الإسباني للنظر فيها، في انتظار إنصافهن، تؤكد نعيمة بدموع حارقة: "أريد استرداد كرامتي وكرامة زوجي ووالِديّ، وأنا واثقة بأن القضاء الإسباني سيُنصِفُني".
اقرأ أيضا: