المساجد المغربية ملاذ المتبرعين بالدم طيلة شهر رمضان

أكياس الدم خلال شهر رمضان تسجل رقماً قياسياً يبلغ 25 ألف كيس تلبي جميع الطلبات

عربي بوست
تم النشر: 2018/06/08 الساعة 18:42 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/06/09 الساعة 06:28 بتوقيت غرينتش

واضِعة سجادتها تحت رأسها ومستلقيةً بهدوء على سرير داخل فضاء مُخصص للنساء بمسجد "يوسف بن تاشفين" في مدينة سلا (قرب الرباط)، تمد شيماء ذراعها لإحدى المُمرِّضات قبل أن تغمض عينيها بسبب وخْزِ الإبرة المُندَسَّة في وريدها.

في المسجد، يتوافد المصلّون والمصلّيات لا لأداء صلاة العشاء والتراويح فقط؛ بل يعمدُ العشرات كل ليلة وطيلة شهر رمضان إلى التَّبرُّع بدمهم؛ إنقاذاً لأرواح المرضى والمصابين.

ومنذ 5 سنوات، غَدَت مساجد عدد كبير من المدن المغربية فضاءات للأعمال الخيرية باستقبالها المتبرعين بالدم خلال شهر الصيام. ينتظرون بالعشرات حتى يَحين دورهم لمنح قطرات من دمائهم لمن يحتاجها، وشيماء واحدة منهم، على الرغم من تعب الصيام، الذي تمتد ساعاته في المملكة إلى 16 ساعة.

التبرع بالدم.. صدقة جارية

"ومن أحياها فكأنَّما أحيا الناس جميعا"، تقول الشابة الثلاثينية خلال حديثها لـ "عربي بوست" وهي على سرير التبرع، تعتبر رمضان شهر الرحمة والصدقات والتقرب إلى الله، وتبرعها بالقليل من دمها لمن يحتاجه كفيل بإنقاذ الأرواح ومساعدة المرضى.

لا تكف عن الكلام، كما تستمر في تحريك قبضة يديها، لافتةً إلى أن التبرع داخل المسجد خلال شهر رمضان بات موعداً سنوياً تقوم به رفقة زوجها، لتكون هذه السنة هي المرة الثالثة على التوالي.

"الدم، سائل الحياة الذي لا محيد عنه، وواحد من أعظم نِعم الله التي لا حصر لها، وعليه تتوقف حياة آلاف المرضى والمعطوبين"، يقول إعلان دعائي نشره المركز المغربي لتحاقُن الدم ومؤسسة محمد السادس للنُّهوض بالأعمال الاجتماعية للقيِّمين الدينيين، مُعلناً انطلاق حملة التبرع بالدم في مساجد أزيد من 20 مدينة مغربية طيلة الشهر الفضيل.

في رمضان.. لا نقص في أكياس الدم!

تصل الحاجة اليومية من الدم بالمغرب إلى 700 كيس، بمعدل 21 ألف كيس شهرياً، وفق ما سجَّله المركز المغربي لتحاقن الدم في الرباط. وبفضل هذه الحملة الوطنية، باتت أكياس الدم خلال شهر رمضان تسجل رقماً قياسياً يبلغ 25 ألف كيس، تلبي جميع الطلبات ويستمر المخزون في مد المحتاجين أسبوعاً كاملاً عقب عيد الفطر.

نجية العمراوي، مسؤولة التوعية والتواصل بالمركز الوطني لتحاقُن الدم، أبرزت أن المغرب كان يُعاني خَصاصاً كبيراً بمخزون الدم خلال شهر رمضان في السنوات التي سبقت 2013، فالمواطنون لا يتبرعون نهاراً بسبب الصيام، إلا أن المملكة المغربية استطاعت التغلب على هذا الخَصاص عبر تنظيم هذا النوع من الحملات منذ 5 سنوات.

الحملة الوطنية التي تجري بتنسيق مع مندوبيات وزارة الأوقاف والشؤون والمجالس العلمية المحلية ومؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية للقيِّمين الدينيين، استطاعت الاستفادة من تبرُّع أزيد من 15 ألف شخص خلال الأسابيع الثلاثة الأولى من رمضان الجاري، وفق تصريح العمراوي لـ"عربي بوست".

"الجامع".. صلاة ودعاء ومآرِب أخرى

وعلى الجانب الآخر من المسجد، حيث كان المصلون يؤدُّون صلواتهم بكل طمأنينة وهدوء لا تسمع منهم إلا قول "آمين"- تغيَّر الحال بُعيد انتهاء صلاة العشاء وغدا المكان كخلية نحل؛ رجال على أَسِرَّة التبرع، وآخرون يفترشون الزرابيَّ على أرضية "الجامع"، كما يحلو للمغاربة تسمية المسجد.

عبد الرحمن كان ينتظر أن يفرغ أحد الأَسرَّة ليتبرع بدوره، يقول بحماسة عن مبادرته: "هي صدقة جارية، أرجو من الله أن يتقبلها ويعفو عني بها، خاصة أننا في العشر الأواخر من رمضان، مرضى كثر يحتاجون لأكياس الدم بشكل يومي"، يلتقط شيخٌ بقربه خيط الكلام متابعاً: "آمين يا وليدي"، ويستمر في الدعاء لكل من كان حاضراً في القاعة: "اللهم تقبَّل منا الصيام والقيام والصدقات، وهذا التبرع يا أرحم الراحمين".

استغل عبد الرحمن حديثه لـ"عربي بوست"، داعياً المغاربة القادرين إلى التبرع بالدم، "التبرع مفيد للجسم؛ يجدد خلاياه وكُرياته الحمراء، وينقذ آخرين لن يتمكنوا من الحصول على هذه المادة الحيوية لا عبر التَّصنيع ولا الإنتاج".

بالفعل، لا يمكن الحصول على الدم إلا عن طريق التبرع، هذا ما أكده الممرض عبد الخالق. س، مراقباً أحد الأكياس وهو تمتلئ دماً، مشيراً إلى أن في التبرع إنقاذ حياة المرضى ممن يعانون أمراضاً تجعلهم بحاجة إلى تجديد الدماء في أجسادهم ومدّها بالدم ومشتقاته كل يوم أو مرتين أو ثلاث مرات أسبوعياً.

الممرض دعا المغاربة، المعروفين بكرمهم وشهامتهم، وفق تعبيره، إلى التبرع بالدم كلما استطاعوا ذلك، خاصة خلال شهر رمضان داخل المساجد وبالعربات المتنقلة الخاصة بالتبرع.

أما مسؤولة التوعية والتواصل بالمركز الوطني، فأوضحت أن المغاربة استجابوا لدعوات المركز الوطني وباتوا يُقْبلون فعلاً على التبرع بدمائهم خلال شهر رمضان بكثافة؛ إذ بلغ عدد المتبرعين رمضان السنة الماضية (2017) 26 ألف متبرع، متجاوزاً الهدف المسطر الذي يروم الوصول إلى 25 ألف متبرع خلال الشهر الفضيل، 13 ألفاً منهم داخل المساجد.

العمراوي تحدثت عن الظروف الصعبة التي يشتغل فيها موظفو مركز التحاقُن، منوهةً بمجهوداتهم طيلة ساعات الليل الممتدة من بعد العشاء إلى ما قبل الفجر بقليل، لافتةً إلى أن المساجد تشهد إقبالاً كبيراً، يجعل العمل داخلها يخضع لنظام خاص ويتطلب الكثير من الصبر والأناة.

غادرت شيماء وعبد الرحمن بعدما تبرعا بدمهما لمرضى ومصابين مجهولين في حاجة ماسَّة إليه، فيما استمرَّ المُمرض البشوش في عمله، مستقبلاً الراغبين في التبرع ومودِّعاً المغادرين، فما زالت ليلته طويلة وما زال المتبرعون يتوافدون تباعاً حتى مطلع الفجر.

علامات:
تحميل المزيد